زكاة المعادن
المبحث الأول : في بيان معني
المعدن والكنز والركاز
قال ابن الأثير في (النهاية) :
المعادن : المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض، كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك،
واحدها المعدن[1].
وقال ابن الهمام في (الفتح) :
المعدن من العدن وهو الإقامة، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به .. ومنه جنات عدن،
ومركز كل شيء معدنه – عن أهل اللغة- فأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه، ثم
اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالي في الأرض يوم خلق الأرض، حتي
صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة.
والكنز : المثبت فيها من الأموال
بفعل الإنسان.
والركاز : يعمهما (يعني المعدن
والكنز) لأنه من الركز مراد به المركوز، أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق[2]
وهو مبني علي قول فقهاء العراق في تفسير معني (الركاز).
وذكر ابن القدامة في (المغني)
تعريفا دقيقا في المعدن فقال : هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما
له قيمة.
وإنما قال (ماخرج من الأرض) احترازا
مما خرج من البحر. وقال (مما يخلق فيها) احترازامن الكنز الذي يوضع فيها بفعل
البشر لابخلق الله. وقال (من غيرها) احترازا من الطين والتراب لأنه من الأرض. وقوله
(مما له قيمة) ليمكن أن يكون مالا تتعلق به الحقوق.وقد مثل له بالذهب والفضة
والرصاص والحديد والياقوت والزبرجد والعقيق والكحل، وكذلك المعادن لجارية كالقار
والنفط والكبريت ونحو ذلك[3].
المبحث الثاني : الكنوز المدفونة
ومايجب فيها
أما الكنوز وهي مادفنه القدامي في
الأرض، من المال علي اختلاف أنواعه. كالذهب والفضة والنحاس والآنية وغير ذلك،
فأوجب الفقهاء فيها الخمس علي من وجدها لما روي أبو هريرة أن النبي صلي الله عليه
وسلم قال : (( في الركاز الخمس))[4].
والمدفون في الأرض ركاز بالإجماع، لأنه مركوز فيها.
وروي النسائي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال : سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال : ماكان في
طريق مأتي (مسلوك) أوفي قرية عامرة، فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فلك. ومالم
يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس[5].
وقد دل الحديثان علي أمور منها[6]:
- أن مايجده في موات أو أرض لايعلم لها
مالك ففيه الخمس، ولو وجده علي ظهر الأرض. أما مايجده في ملك مسلم أو ذمي فهو
لصاحب الملك.
- الجمهور علي أن الركاز يشمل كل مال ركز
ودفن في الأرض، وخصه الشافعي بالذهب والفضة[7]
والأول هو الموافق لعموم الأحاديث.
- كما دل ظاهر الحديثين أن الخمس علي
الواجد سواء أكان مسلما أم ذميا، صغيرا أم كبيرا، وإليه ذهب الجمهور. وقال
الشافعي: لايؤخذ من الذمي شيء[8]، بناء
علي أنه لايجب إلا علي من تجب عليه الزكاة، لأنه زكاة. وحكي عنه في الصبي والمرأة
: أنهما لايملكان الركاز.
قال في المغني : ولنا عموم قوله عليه السلام (( في الركاز الخمس)) فإنه يدل بعمومه علي وجوب الخمس في كل ركاز يوجد، وبمفهومه علي أن باقيه لواجده من كان[9].
قال الشيخ تقي الدين ابن الدقيق العيد : من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلي الحديث[10].
قال في المغني : ولنا عموم قوله عليه السلام (( في الركاز الخمس)) فإنه يدل بعمومه علي وجوب الخمس في كل ركاز يوجد، وبمفهومه علي أن باقيه لواجده من كان[9].
قال الشيخ تقي الدين ابن الدقيق العيد : من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلي الحديث[10].
- وظاهر الحديث عدم اعتبار النصاب، وأن
الخمس فيما وجد من كنوز الجاهلية قليلا أو كثيرا، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة
وأصحابه وأحمد واسحاق والشافعي في القديم ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب
كالغنيمة، ولأنه مال ظهر عليه بغير جهد ومؤنة، فلم يحتج إلي التخفيف بإعفاء القليل
منه، بخلاف المعدن والزرع[11].
وقال الشافعي في الجديد : يعتبر فيه النصاب، لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض، فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع.
وقال الشافعي في الجديد : يعتبر فيه النصاب، لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض، فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع.
- واتفقوا علي أنه لايشترط فيه الحول، بل
يجب إخراج الخمس في الحال.
وقال الحافظ في الفتح : وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي، فحكي عن الشافعي الاشتراط ولايعرف ذلك في شيء من كتبه ولاكتب لأصحابه[12].
وقال الحافظ في الفتح : وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي، فحكي عن الشافعي الاشتراط ولايعرف ذلك في شيء من كتبه ولاكتب لأصحابه[12].
- ولم يحدد الحديث مصرف الركاز. ولذلك
اختلف الفقهاء فيه : أيصرف مصرف الزكاة، للفقراء والمساكين وسائر الأصناف
الثمانية، أم يصرف مصرف الفيء، أي في المصالح العامة للدولة، وللفقراء والمساكين
حظ فيها أيضا؟
قال الشافعي وأحمد في رواية عنه :
مصرفه مصرف الزكاة، لأن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به
علي المساكين. رواه عنه الإمام أحمد. ولأنه مستفاد من الأرض فأصبح الزرع والثمر.
وقال أبو حنيفة وأحمد ومالك في رواية أخري عنه والجمهور : مصرفه كالفيء[13]. أي يخلط بالميزانية العامة للدولة، لما روي أبو عبيد بسنده عن الشعبي : أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة، فأتي بها عمر بن الخطاب فأخذ منها الخمس-مائتي دينار- ودفع إلي الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضر من المسلمين، إلي أن فضل منها فضلة. فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر : خذ هذه الدنانير فهي لك. قال في المغني : ولو كانت زكاة لخص بها أهلها ولم يفرقها علي من حضره، ولم يرده علي واجده، قالوا : ولأنه يجب علي الذمي، والزكاة لاتجب عليه، ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر فأشبه خمس الغنيمة[14].
وأيا ماكان المصرف فهذه الكنوز أمر نادر الوقوع، وليست مورودا ذا قيمة لخزانة الزكاة أو الخزانة العامة. لهذا كان المهم في هذا الفصل أن نعرف الحكم في الثروة المعدنية، فهي مورد هام يتميز بالغني والتجدد والاستمرار.
وقال أبو حنيفة وأحمد ومالك في رواية أخري عنه والجمهور : مصرفه كالفيء[13]. أي يخلط بالميزانية العامة للدولة، لما روي أبو عبيد بسنده عن الشعبي : أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة، فأتي بها عمر بن الخطاب فأخذ منها الخمس-مائتي دينار- ودفع إلي الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضر من المسلمين، إلي أن فضل منها فضلة. فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر : خذ هذه الدنانير فهي لك. قال في المغني : ولو كانت زكاة لخص بها أهلها ولم يفرقها علي من حضره، ولم يرده علي واجده، قالوا : ولأنه يجب علي الذمي، والزكاة لاتجب عليه، ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر فأشبه خمس الغنيمة[14].
وأيا ماكان المصرف فهذه الكنوز أمر نادر الوقوع، وليست مورودا ذا قيمة لخزانة الزكاة أو الخزانة العامة. لهذا كان المهم في هذا الفصل أن نعرف الحكم في الثروة المعدنية، فهي مورد هام يتميز بالغني والتجدد والاستمرار.
المبحث الثالث : المعدن ووجوب حق
فيه
في هذا المبحث علينا أن نعرف
الحكم في الثروة المعدنية تستخرج من باطن الأرض، وهي تلك الثروة التي ركزها الله
في الأرض، وخلطها بترابها، وهدي الإنسان إلي استخراجها بوسائل شتي، حتي يصنعها
ويميزها ذهبا أو فضة أو نحاسا أو حديدا أو قصديرا أو زرنيخا أو نفطا أو قارا أو
ملحا، إلي آخر تلك المعادن السائلة والجامدة. ولاشك أن هذه الثروة لها قيمتها
وأهميتها في حياة الإنسان، وخاصة في عصرنا الحديث الذي تتنافس فيه الشركات
العالمية للحصول علي امتيازات التنقيب عن هذه المعادن في جوف الأرض، بل تصطرع
حكومات وقد تشتعل حروب، من أجل هذه الثروة المذخورة في التراب، وخاصة البترول
منها.
ما حكم شريعة الإسلام فيما يحصل
من هذه المعادن؟ وما الحق الواجب فيها؟ ومتي يجب؟ وفي أي مقدار يجب؟ وما تكييف هذا
الحق؟ وأين يصرف؟
أسئلة اختلف الفقهاء في الاجابة
عنها تبعا لاختلافهم في تفسير النصوص، وفي القياس عليها، وإن اجتمعوا في الجملة،
علي وجوب حق يؤخذ مما يستخرج من المعدن، مستندين إلي عموم قوله تعالى: ((ياأيها
الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض))[15].
ولاريب أن المعادن مما أخرجه الله تعالي لنا من الأرض.
المعدن الذي يؤخذ منه هذا الحق
من ذلك اختلافهم في تحديد المعدن
الذي يؤخذ منه هذا الحق. فالمشهور عن الشافعي أنه يقصره علي الذهب والفضة، فأما
غيرهما من الجواهر كالحديد والنحاس والرصاص والفيروزج والبلور والياقوت والعقيق
والزمرد والزبرجد والكحل وغيرها، فلا زكاة فيها.
ويري أبو حنيفة وأصحابه أن كل
المعادن المستخرجة من اللأرض مما ينطبع بالنار، وبتعبير آخر مما يقبل الطرق
والسحب. فيها حق واجب فأما المعادن السائلة أو الجامدة التي لاتنطبع فلا شيء فيها
عندهم[16].
وإنما قالوا ذلك قياسا علي الذهب والفضة اللذين ثبت وجوب الزكاة فيهما بالنص
والإجماع، فيقاس عليهما ما أشبههما وذلك هو الذي ينطبع بالنار من المعادن.
ومذهب الحنابلة أن لافرق بين ما
ينطبع من المعادن، فالمعدن الذي يتعلق به الوجوب هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق
فيها من غيرها مما له قيمة، سواء كان جامدا كالحديد والرصاص والنحاس وغيرها، أم من
المعادن الجارية كالنفط والقار والكبريت، وهذا أيضا مذهب زيد بن علي والباقر
والصادق، وعليه كافة فقهاء الشيعة ما عدا المؤيد بالله فقد استثني الملح والنفط
والقار[17].
سئل أبو جعفر الباقر عن الملاحة
فقال : وما الملاحة؟ فقال السائل : أرض سبخة مالحة يجتمع فيها الماء فيصير ملحا،
فقال : هذا المعدن فيه الخمس، قال السائل : والكبريت والنفط يخرج من الأرض؟ فقال :
هذا وأشباهه فيه الخمس[18].
ومذهب الحنابلة ومن وافقهم هنا هو
الراجح[19]،
وهو الذي تؤيده اللغة في معني ( المعدن) كما يؤيده الاعتبار الصحيح، إذ لافرق في
المعني بين المعدن الجامد والمعدن السائل، ولابين ما ينطبع ومالا ينطبع : لافرق
بين الحديد والرصاص وبين النفط والكبريت، فكلها أموال ذات قيمة عند الناس، حتي
ليسمى النفط في عصرنا (الذهب الأسود)، ولو عاش أئمتنا رحمهم الله حتي أدركوا قيمة
المعادن في عصرنا وما تجلبه من نفع وما يترتب عليها من غني الأمم وازدهارها، لكان
لهم موقف آخر فيما انتهي إليه اجتهادهم الأول من أحكام.
وقد استدل صاحب المغني لمذهب
الحنابلة فقال :
- لنا عموم قوله تعالى : (( ومما أخرجنا
لكم من الأرض))
- ولأنه معدن، فتعلقت الزكاة بالخارج منه
كالأثمان (يعني الذهب والفضة).
- ولأنه مال لو غنمه وجب عليه خمسه، فإذا
أخرجه من معدن وجبت فيه الزكاة كالذهب[20].
المبحث الرابع : مقدار الواجب في
المعدن : الخمس أو ربع العشر
أما قدر الواجب في المعدن
فاختلفوا فيه أيضا :
قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد
وزيد بن علي والباقر والصادق، وعامة فقهاء الشيعة زيدية وإمامية : الواجب فيه
الخمس.
وقال أحمد واسحاق : الواجب فيه
ربع العشر، قياسا علي قدر الواجب في زكاة النقدين بالنص والإجماع وهو ربع العشر،
وهو قول مالك والشافعي.
وعند المالكية : المعدن علي ضربين
: ضرب يتكلف فيه مؤنة عمل، فهذا لاخلاف في أنه لايجب فيه غير الزكاة، وضرب لايتكلف
فيه مؤنة عمل، فهذا اختلاف قول مالك فيه، فقال مرة : فيه الزكاة، وقال مرة أخري
فيه الخمس[21]
ويعني بالزكاة : ربع العشر كالنقود.
وللشافعي مثل هذه الأقوال كلها،
والمشهور عنه والمفتي به عند أصحابه أن الذي يؤخذ هو ربع العشر[22].
وهناك رأي آخر مشهور في مذهب مالك
: أن ما يخرج من باطن الأرض، سواء أكان فلزات أم كان سوائل، يكون كله ملكا لبيت
مال المسلمين، فالمنجم والبترول السائل في باطن الأرض ملك للدولة،. وقد علل ذلك
بأن مصلحة المسلمين أن تكون هذه الأموال لمجموعهم لا لآحادهم، ولأن هذه المعادن قد
يجدها شرار الناس، فإن تركت لهم أفسدوها، وقد يؤدي التزاحم عليها إلي التقاتل وسفك
الدماء والتحاسد، فجعلت تحت سلطان ولي الأمر النائب عن المسلمين ينفق غلاتها في
مصالحهم[23].
ولعل مما يؤيد هذا ما رواه أبو
عبيد عن أبيض بن حمال المازني :أنه استقطع رسول الله صلي الله عليه وسلم الملح
الذي بمأرب فقطعه له، قال : فلما ولي قيل : يارسول الله، أتدري ما قطعت له؟ إنما
أقطعته الماء العد. قال : فرجعه منه[24].
والعد : الدائم الذي لاينقطع، شبه
الملح بالماء العد لعدم انقطاعه، وحصوله بغير كد وعناء.
وفسر أبو عبيد إقطاعه الملح ثم
ارتجاعه منه بقوله : إنما أقطعته وهو عنده أرض موات يحييها أبيض ويعمرها، فلما
تبين للنبي صلي الله عليه وسلم أنه ماء عد – وهو الذي له مادة لاتنقطع- مثل ماء
العيون والآبار، ارتجعه منه، لأن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم في الكلأ
والنار والماء أن الناس جميعا فيه شركاء، فكره أن يجعله لرجل يحوزه دون الناس.
وهكذا ماكان كالبترول والحديد
ونحوهما يجب أن تحوزه الدولة، ولايحوزه فرد أو أفراد دون الناس.
أدلة القائلين بربع العشر :
واستدل القائلون بربع العشر في
المعدن بما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن عن غير واحد، أن رسول
الله صلي الله عليه وسلم قطع لهلال بن الحارث معادن القبلية (ناحية من ساحل البحر
بينها وبين المدينة خمسة أيام) وهي من ناحية القرع (مكان بين نخلة والمدينة) فتلك
المعادن لا يؤخذ منها إلي اليوم إلا الزكاة[25].
قال الشافعي في الأم بعد أن روي
هذا الحديث : ليس هذا مما يثبته أهل الحديث رواية، ولو أثبتوه لم يكن فيه الرواية
عن النبي صلي الله عليه وسلم إلا اقطاعه، وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست
مروية عن النبي صلي الله عليه وسلم فيه[26].
وكذلك قال أبو عبيد :فأما حديث
ربيعة الذي رواه في القبلية، فليست له إسناد، ومع هذا أنه لم يذكر فيه أن النبي
صلي الله عليه وسلم أمر بذلك، إنما قال (فهي تؤخذ منها الصدقة إلي اليوم)ولو ثبت
هذا عن النبي صلي اللع عليه وسلم كان حجة لا يجوز دفعها[27].
أدلة القائلين بالخمس :
- استدل أبو حنيفة ومن وافقه بقول رسول الله
صلي الله عليه وسلم : (( في الركاز الخمس)).
قالوا : المستخرج من الأرض نوعان
: أحدهما يسمي (الكنز)، وهو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض. والثاني يسمي (
معدنا) وهو المال الذي خلقه الله تعالي في الأرض يوم خلق الأرض، والركاز اسم يقع
علي كل واحد منهما، إلا أن حقيقته للمعدن، واستعماله للكنز مجاز[28].
علي حين قال مالك والشافعي وفقهاء
الحجاز بعامة : المعدن ليس بركاز،بل هو الكنوز المدفونة في الأرض في عهد الجاهلية،
بدليل ما رواه الجماعة عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ((العجماء
جرحها جبار،والبر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس[29])).
فقد فرق النبي صلي الله عليه وسلم
في هذا الحديث بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره.
وللحنفية أن يقولوا : إن المعدن
داخل تحت قوله (وفي الركاز الخمس) لأنه ذكر المعدن، فلو قال : وفيه الخمس، لكان
يخرج منه المال المدفون لأنه ليس بمعدن، فعدل إلي اللفظ الأعم له وللمال المدفون[30].
ولم يوجد من أهل اللغة من يحسم
النزاع بين الفريقين، فقد كان في فقهاء العراق راسخون في اللغة كمحمد ابن الحسن،
ومن فقهاء الحجاز راسخون فيها كالشافعي.
والذي يبدو للناظر أن كلمة
(الركاز) تحتمل المعنيين، ففي القاموس وغيره من كتب اللغة : الركاز ما ركزه الله
أي أحدثه في المعادن ودفين أهل الجاهلية وقطع الذهب والفضة من المعدن[31].
وقال ابن الأثير في (النهاية) :
الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق :
المعادن، والقولان تحتملهما اللعة لأن كلا منهما مركوز في الأرض أي ثابت.
واستدل أبو حنيفة علي أن المراد
بالركاز : المعدن. بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلي
الله عليه وسلم عما يوجد في الخرب العادي (القديم) فقال : (( فيه وفي الركاز
الخمس))
فقال : اخبر بدءا عن المال
المدفون ثم عطف عليه الركاز، والمعطوف غير المعطوف عليه في الأصل.
قال بعض أصحابه : وتسمية المعدن
بالركاز إن لم توجد في أصل اللغة، فهي شائعة من طرق المقاييس اللغوية، وقدنقل عن
محمد ابن الحسن الشيباني أنه قال : إن العرب تقول ركز المعدن إذا كثر ما فيه من
الذهب والفضة[32].
وقال صاحب
البدائع : الركاز مأخوذ من الركز وهو الإثبات، وما في المعدن هو المثبت في الأرض
لا الكنز لأنه وضع مجاورا للأرض.
- وأيد الحنفية
مذهبهم وهو إيجاب الخمس في المعادن المستخرجة بدليل آخر، وهو قياسها علي الغنائم
الحربية. أو اعتبارها نوعا منها.
قالوا : لأن
المعادن كانت في أيدي الكفرة، وقد زالت أيديهم عنها، ولم تثبت يد المسلمين علي هذه
المواضع، لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء علي الجبال والمغاور، فبقي ما تحتها علي علي
حكم ملك الكفرة. وقد استولى عليه علي طريق القهر بقوة نفسه، فيجب فيه الخمس، ويكون
أربعة أخماسه له كما في غنام الحرب.
ولكن في هذا
الاستدلال تكلفا، فإن ادعاء بقاء هذه المعادن علي ملك الكفار ادعاغير مسلم. كيف؟ وهي
جزء من أرض الإسلام في دار الإسلام؟ ومن ذا الذي يجزم بأن المعادن إنما تكونت في
عصر ما قبل الإسلام؟
وقد عقد
القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي بابا من وقف العموم علي ما قصد به، وأنه
لايتعدي به إلي غير ما لم يقصد به إلا بدليل. وإن كان إطلاق الصيغة يقتضيه .. وذهب
إلي هذا بعض أصحاب الشافعي، منهم أبو بكر القفال وغيره .. وقد أشار المحقق ابن
الدقيق العيد في مواضع من شرح العمدة إلي أن دلالة الصياغ ترشد إلي تبيين المجلات،
وترجيح بعض المحتملات، وتأكيد الواضحات، وأن الناظر في ذلك يرجع إلي ذوقه،
والمناظر يرجع إلي دينه وإنصافه[33].
وإذا
فالعمدة في الاستدلال هو الدليل الأول، أعني أن الركاز الذي صح الحديث بأن فيه
الخمس يشمل المعدن كما يشمل الكنوز المدفونة، وهذا المذهب هو الذي رجحه الفقيه
الجليل أبو عبيد في ((الأموال)) وروي عن
علي بن أبي طالب مايؤيد ذلك[34].
مذهب من
يجعل الواجب علي قدر المؤنة :
ورأي بعض
الفقهاء رأيا آخر نظر فيه إلي مقدار الجهد المبذول والنفقات والمؤنة في استخراج
المعدن بالنسبة لقدر الخارج منه. فإذا كان الخارج كثيرا بالنسبة إلي العمل
والتكاليف، فالواجب هو الخمس،وإن كان قليلا بالنسبة إليهما، فالواجب هو ربع العشر[35].
وهذا قول
لمالك والشافعي رحمهما الله.
والذي دعاهم
إلي هذا التفريق إنما هو التوفيق بين الأحاديث التي تفيد أن في الذهب والفضة ربع
العشر -وهما معدنان فيقاس عليهما بقية المعادن- والأحاديث التي تفيد أن في المعدن
الخمس. وأنه ركاز أو كالركاز، ومن جهة أخري القياس علي الزرع حيث اختلف مقدار
الواجب فيه باختلاف الجهد.
وفي ذلك
يقول الرافعي من الشافعية مدللا علي هذا القول : إن ما ناله من غير تعب ومؤنة فيه
الخمس، وما ناله بالتعب والمؤنة ففيه ربع العشر، جمعا بين الأخبار. وأيضا فإن
الواجب يزداد بقلة المؤنة، وينقص بكثرتها. ألا تري أن الأمر في المسقي بماء السماء
والمسقي ببالنضح؟
والفرق بين
الخمس 20% وربع العشر 2,5% ليس فرقا هينا. فلابأس أن يفرض العشر
أو نصفه حسب قيمة المستخرج بالنسبة إلي التعب والتكاليف، وليس ذلك ابتداعا لشرع
جديد. بل هو صريح القياس علي ما جاء به الشرع من التفاوت وبين مقادير الواجب حسب
نفع المال المأخوذ وقيمته وسهولة الحصول عليه أو مشقته.
المبحث الخامس في نصاب
المعدن ومتي يعتبر؟
هل يشترط
للمعدن نصاب؟
ذهب أبو
حنيفة وأصحابه والعترة إلي وجوب حق المعدن في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب.
بناء علي أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها عليه، ولأنه لايعتبر له حول،
فلم يعتبر له نصاب كالركاز.
وقال مالك
والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق : لابد من اعتبار النصاب، وذلكأن يبلغ الخارج ما
قيمته نصاب من النقود، واستدل هؤلاء بعموم الأحاديث التي وردت في نصاب الذهب
والفضة. مثل (( ليس فيما دون خمسة أواق صدقة))[36]،
(( ليس في تسعين ومائة شيء )). وبإجماع فقهاء الأمصار علي أن نصاب الذهب عشرون
مثقالا.
والصحيح
الذي تعضده الأدلة في المعدن هو اعتبار النصاب، وعدم اعتبار الحول.
والمعني فيه
– كما قال الرافعي من الشافعية- أن النصاب إنما اعتبر ليبلغ المال مبلغا يحتمل
المساواة. والحول إنما اعتبر ليبلغ المال مبلغا يحتمل المساواة. والحول إنما اعتبر
ليتمكن من تنمية المال وتثميره. والمستخرج من المعدن نماء في نفسه. ولهذا اعتبرنا
النصاب في الزروع والثمار، ولم نعتبر الحول[37].
المدة التي يعتبر فيها النصاب:
وليس معني اشتراط النصاب فيما
يستخرج من المعدن أن ينال في الدفعة الواحدة نصابا، بل ما ناله بالدفعات يضم بعضها
إلي بعض في الجملة، لأن المستخرج من المعدن هكذا ينال غالبا، فأشبه تلاحق الثمار
الذي بيناه في زكاة الحاصلات الزراعية.
لكن الضابط في ضم الثمار بعضها
إلي بعض كونها ثمار سنة واحدة أو موسم واحد. وههنا ينظر إلي العمل والنيل وظهور
المعدن والحصول عليه، فإن تتابع العمل وتواصل النيل ثبت الضم، ولا يشترط بقاء ما استخرجه في ملكه، فلو تصرف فيه ببيع أو غيره وجب ضمه إلي
غيره حتي يكمل الخارج نصابا. وإن انقطع العمل لأمر طارىء كإصلاح آلة أو مرض العامل
أو سفره لم يؤثر ذلك في ضم الخارج بعضه إلي بعض، بخلاف ما إذا انقطع للانتقال إلي
حرفة أخري يأسا من ظهور المعدن، أو لأي سبب آخر، فهذا انقطاع مؤثر.
وإن تتابع
العمل ولكن لم يتوصل النيل، بأن انقطع المعدن زمانا ثم عاد النيل، فإن كان زمان
الانقطاع يسيرا لم يقدح في الضم. وإن طال، فمن العلماء من يري الضم، لأن المعدن
كثيرا ما يعرض له ذلك، فلو لم يضم لبطلت زكاة المعدن في كثير من الأحوال.
وفيهم من
يري أنه لايضم كما لو انقطع العمل، ويعتبر ذلك كحب زرعتين أو ثمار موسمين[38].
والرأي عندي[39]
في مثل هذه الأمور أن تترك لتقدير الخبراء الفنيين عملا بما أرشد إليه القرآن في مثل ذلك حين قال
: (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون))[40].
المبحث السادس : هل
يشترط للمعدن حول؟
الذي ذهب
إليه جماهير الفقهاء أن حقه يجب فيه بمجرد استخراجه والحصول عليه، ويخرجه بعد
تصفيته وتمييزه.
قال مالك :
المعدن بمنزلة الزرع، يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع، يؤخذ منه إذا خرج المعدن من
يومه ذلك، ولا ينتظر به الحو، كما يؤخذ من الزرع إذا حصد العشر، ولاينتظر أن يحول
عليه الحول[41].
وهو قول
عامة العلماء من السلف والخلف كما قال النووي[42]،
والمنصوص في معظم كتب الشافعي، والمصحح في مذهب أحمد[43].
وخالف في
ذلك إسحاق وابن المنذر، فاشترطا الحول،لحديث (( لازكاة في مال حتي يحول عليه
الحول))
والحديث
ضعيف لايحتج به، ومع هذا أجمعوا أنه غير مبقي علي عمومه، فقد خص منه الزرع والثمر،
فيلحق به المعدن ويقاس عليه.
قال في
المغني مؤيدا عدم اشتراط الحول : لنا أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب
حقه حول، كالزرع والثمر، فيلحق به المعدن ويقاس عليه.
قال في
المغني مؤيدا عدم اشتراط الحول : لنا أنه مال مستفاد من الأرض، فلا يعتبر في وجوب
حقه حول، كالزرع والثمار والركاز (الكنوز)، ولأن الحول إنما يعتبر في غير هذا
لتكميل النماء. وهو يتكامل نماؤه دفعة واحدة، فلا يعتبر له حول كالزروع[44].
وقال صاحب
المهذب من الشافعية : يجب حق المعدن بالوجود (يعني بمجرد الحصول عليه) ولايعتبر
فيه الحول في أظهر القولين، لأن الحول يراد لكمال النماء، وبالوجود يصل إلي
النماء، فلم يعتبر فيه الحول كالزرع[45].
المبحث السابع : في مصرف
ما يؤخذ من المعدن
أين يصرف ما
يؤخذ من المعدن؟
اختلف
الفقهاء كذلك في تكييف ما يؤخذ من المعدن من حق معلوم : هل يعد الزكاة؟ فيصرف في
مصارف الزكاة الثمانية التي حددها القرآن بقوله تعالى : ((إنما الصدقات للفقراء
والمساكين)) ؟
أم لايعد
زكاة، فيصرف مصرف خمس الغنائم والفيء، أعني أن يصرف في المصارف العامة للدولة،
ومنها كفالة الفقراء والمساكين إذا لم تكفهم الزكاة؟
ذهب أبو
حنيفة ومن وافقه إلي أن مصرفه مصرف الفيء، وذهب مالك وأحمد إلي أن مصرفه مصرف
الزكاة.
واختلف في
ذلك مذهب الشافعي، فقيل : مصرف الزكوات مطلقا، وقيل : إن أوجبنا الخمس فمصرفه كالفيء،
وإن أوجبنا ربع العشر فمصرفه كالزكاة.
ويترتب علي
هذا الخلاف أن ما لم يعتبره زكاة يوجب الخمس علي الذمي إذا استفاد معدنا، بخلاف
الاعتبار الآخر، إذ الزكاة لاتجب علي الذمي لأنها عبادة وهو ليس من أهلها، وكذلك
من لم يعتبره زكاة لايشترط في أدائه النية، بخلاف الآخر فإنه يشترط النية، إذ هي
عبادة ولاعبادة بغير النية[46].
[11]
المغني جـ 3 ص 20، 21، ونسب الشوكاني
القول باعتبار النصاب إلي مالك وأحمد وإسحاق، وهو مخالف لما نقله صاحل المغني
وخاصة عن أحمد.
اضف تعليقاً عبر: