-->
»نشرت فى : »بواسطة : »ليست هناك تعليقات

فتح الله كولن وعلم الاجتماع الإسلامي




الفصل الأول: تعريف بفتح الله كولن
الفصل الثاني :الجذور الفكرية لحركة الأستاذ فتح الله كولن
الفصل الثالث:منهج فتح الله كولن في الإصلاح والدعوة إلى الإسلام
الفصل الرابع : الجوانب الاجتماعية عند كولن
       أ - أسس الحوار والتسامح وقبول الآخر عند كولن
   
       ب - لا تستند الحركة إلى أي كتلة سياسية

      ج - تشجيع إنشاء المدارس الحديثة الخاصة
       د- مشروع التربية والتعليم الذي بدأه فتح الله كولن ووضع على عاتقه مهمة إنجازه  
الفصل الخامس :الجوانب الروحية عند فتح الله كولن
             التربية الدينية هي الأهم والأساس في نظر كولن 

الفصل السادس :البناء الحضاري في فكر "فتح الله كولن


الفصل الأول
تعريف بفتح الله كولن
1- من هو فتح الله كولن؟

- ولد محمد فتح الله كولن عام1938 م في محافظة أرضروم في قرية كوروجوك، ونشأ مع عائلة محافظة لها سبعة أولاد خمسة منهم ذكور وبنتان، عمل والده رامز أفندي إماماً حكوميًّا في جوامع مدن عديدة.

- وتقع مدينة أرضروم في الشمال الشرقي من تركيا، وكلمة "كولن أو جولن" بالتركية تعني البسّام في اللغة العربية.

- و قضى محمد فتح الله كولن طفولته في بيئة محافظة بالقيم المعنوية وفي جو كلاسيكي من أجواء التكية والمدارس الدينية، البيئة.

– وكان يهتم كثيرا  بالنشاطات الثقافية والسياسية الاقتصادية والاجتماعية للعالم الخارجي و المشاكل الاجتماعية. و تعرف على دنيا الفن والأدب والسينما والمسرح والحركات الفكرية الموجودة في بيئته.
         - كان والده (رامز أفندي) شخصًا ‏مشهودًا لـه بالعلم والأدب والدين وقام بتعليمه اللغة العربية ، وجالس ‏الكبار واستمع إلى أحاديثهم
 - وكانت والدته (رفيعة خانم) سيدة معروفة بتدينها وبإيمانها العميق بالله، ‏وقامت بتعليم القرآن لابنها محمد فكانت ‏أمه توقظ ابنها وسط الليل ولم يتجاوز بعد الرابعة من عمره ، وختم القرآن في شهر واحد
- وتلقى تربية روحية التكية إلى ‏جانب العلوم الدينية التي بدأ يتلقاها أيضًا من علماء معروفين من أبرزهم: عثمان بكتاش الذي كان من أبرز ‏فقهاء عهده، حيث درس عليه النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد. ولم يهمل دراسة العلوم الوضعية. ‏والفلسفة
- وعندما بلغ محمد فتح الله العشرين من عمره عيّن إماماً في جامع (أُوجْ شرفلي) في مدينة أدرنة و قضى فيها مدة سنتين ونصف سنة في جو من الزهد ورياضة النفس. وقرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى ‏الشارع إلا لضرورة.‏
- وكان يجوب البلاد طولاً وعرضاً كواعظ متجول يلقي خطبه ومواعظه على الناس في الجوامع. كما كان ‏يرتب المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية ويعقد الندوات والمجالس واللقاءات الخاصة يجيب فيها على الأسئلة الحائرة التي تجول في أذهان الناس ‏والشباب خاصة . ‏
2- خروجه من تركيا
  ليس هناك سبب علني رسمي لأسباب مغادرة كولن تركيا إلى أميركا. لكن متاعب كولن مع السلطات التركية بدأت في 18 يونيو(حزيران) عام 1999م عندما تحدث في التلفزيون التركي، وقال كلاما أعتبره البعض انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقا في تصريحات كولن، وساعتها تدخل رئيس الوزراء التركي آنذاك بولنت اجاويد ودعا الدولة إلى معالجة الامر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن كولن وعن مؤسساته التعليمية وقال: "مدارسه تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرف تركيا بالعالم. مدارسه تخضع لإشراف متواصل من السلطات".
  بعد ذلك اعتذر كولن علانية عن تصريحاته، إلا أن بعض العلمانيين ظلوا متشككين في أهدافه، ولاحقا وجهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش.
بعد تلك الأزمة حدثت أزمة لقطة الفيديو الشهيرة التي بثت على اليوتيوب   وظهر فيها كولن وهو يقول لعدد من أنصاره أنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني إلى نظام إسلامي.
   كما تحدث عن نشر الثقافة التركية في أوزبكستان، مما أثار موجه غضب في الجيش التركي وباقي المؤسسات العلمانية في البلاد. كما أدى إلى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان دفعت بولند اجاويد للتدخل مجددا في محاولة لحلها.
   وقال أجاويد:الرئيس الاوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لاوزبكستان. لا يمكن ان نسمح بالإساءة إلى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية". لكن أوزبكستان قررت إغلاق عدد من المدارس التابعة لكولن. ويبدو أنه خلال هذا الوقت كانت المؤسسة العلمانية في تركيا بدأت هي أيضا تستشعر قلقا متزايدا من كولن ومؤسساته التعليمية، فأصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قرارا يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تعطيها مدارس كولن، لكن هذا القرار كان مؤقتا.لكن كولن يقول بأنه مقيم في لأمريكا بسبب العلاج.
3- مؤلفاته
لفتح الله كولن 60 كتابا، وقد حصل على العديد من الجوائز على كتبه هذه، وأغلبها حول التصوف   في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم.ألف في السيرة النبويه كتابا حديثا أسماه (النور الخالد) الدراسة العلميه لسيرة النبويه.
















الفصل الثاني
الجذور الفكرية لحركة الأستاذ فتح الله كولن


   لم تظهر حركة محمد فتح الله كولن –مثل الحركات السابقة لها– على مُثل وُجدت نتيجة جو من أجواء الأزمات، لأنها أنشأت بنفسها تقاليد هذه الحركة ومظهرها وتشكيلاتها وطرق التوسع والانتشار والتبليغ والدعوة، ومؤسساتها التعليمية والتربوية، ولم تستمد العون –عند بلوغها مستواها الحالي– من أي أيدولوجية سياسية ولا من أي ميراث اجتماعي وثقافي وإسلامي سابق لها، بل استمدت الحركة سرعتها من الشخصية القيادية لـ"محمد فتح الله" ومن علمه، ومن خطبه الحماسية البليغة، ومن نشاطاته الاجتماعية، ومن الفعاليات الاجتماعية والمعنوية للأنصار الملتفين حوله، ولم يكن هناك لأي حركة أي تأثير اجتماعي أو سياسي على بُنية هذه الحركة ولا على ديناميكيتها الدينية والمعنوية، أما مساهمة آثار بديع الزمان "سعيد النورسي" فقد كانت في الإطار المعنوي والروحي ولم تكن لها روابط عضوية أو مباشرة معها.
   لا شك أنه ليس من الممكن إنكار التأثير الفكري والمعنوي لرسائل النور على القوى المحركة الداخلية (ديناميكيات) للحركة، فهذه الرسائل تحفظ الحركة من التشرذم والاختلاف من الناحية العقائدية والفكرية، ونظراً لأن رسائل النور كتبت في ضوء عقيدة السنة والجماعة، فقد أثّرت بشكل قوي من الناحية المعنوية والاجتماعية على جماهير واسعة، وقد تكون هذه الرسائل هي المؤلف الوحيد منذ عصور عدة– الذي يمكن إعادة قراءتها مرات ومرات دون أن تفقد شيئاً من تأثيرها المعنوي والروحي القوي، لذا فلها تأثير معنوي قوي على الحركة بشكل واضح وبديهي، وقد لا تملك هذه الرسائل المنظومة التي تملكها الكتب العلمية الحديثة من ناحية الترتيب والتنظيم، إلا أن كيفية تناولها للموضوعات والحلول الجذرية التي تقدمها، تجعل لها تأثيراً كبيراً في الحياة الاجتماعية للإنسان، ولا تكتفي بإثارة العاطفة الدينية والعقائدية والإيمانية، بل تؤسس روابط قوية بين أفراد الجماعة الواحدة وروابط الإخاء بينهم، وهذه الرابطة الأخوية القوية تحفظ الجماعة فكرياً وعقائدياً من التشويش ومن التأثيرات الخارجية.
   فهذا هو نوع مساهمة رسائل النور في حركة محمد فتح الله كولن، أي أن هذه المساهمة ليست عضوية بل روحية، ومن جهة شخصيتها المعنوية، إن جهات وقطاعات مختلفة تقرأ رسائل النور وتتأثر بها، وهي (أي رسائل النور) تحفظ هذه القطاعات المختلفة تحت تأثير الشخصية المعنوية لها، علماً بأن القوى المحركة الداخلية لحركة محمد فتح الله كولن تشكلت حول الشخصية المعنوية وأثّرت في قطاعات واسعة من الجماهير، وهذا هو ما نعنيه عندما نذكر أن هذه الحركة هي حركة أصيلة، أما النشاطات والفعاليات الدينية للحركة فهي تتغذى بالطبع من الأسس والمراجع الإسلامية المعروفة (الكتاب والسنة والإجماع..الخ) ومن التجارب الماضية للمسلمين وخبراتهم المتراكمة، ولكن هذه التجارب والخبرات المتراكمة لا توجد بشكل جاهز ومصنف ومهيأ للاستخدام، لأن هناك حاجة ماسة إلى قريحة علمية وقادة لاستلهام هذه التجارب التاريخية المختلفة وهذه الخبرات المتراكمة، وما تعنيه من قيم في ضوء الكتاب والسنة، والتعبير عنها في ضوء تجارب العصر الحديث وخبراته، وإعطائها شكلاً جديداً وتفسيراً جديداً مناسباً للعصر، فلا يوجد هناك أي كتاب ولا أي ميراث تاريخي أو أي تجارب اجتماعية وإنسانية تستطيع وحدها توفير هذا للإنسان.
  وهنا تبرز أهمية التجربة الشخصية لـ"محمد فتح الله كولن" وخبراته وقريحته، فقد استطاع مزج الماضي والمستقبل في البوتقة الدينية وفي الحركة الاجتماعية، وقدّم للإنسان المعاصر وللمسلم المعاصر رؤية عالمية مهمة، فلم ينظر إلى الحاضر وإلى واقعه ولا إلى المستقبل مهملاً ميراث الماضي، لأنه دليل على مدى ارتباطه بالإسلام وعلى عمق نشاطه الديني، والمسألة في نظره لا تنحصر في تقييم الميراث الماضي تقييماً جديداً ضمن إطار جهد ثقافي ضيق، بل عيش هذه القيم ضمن وجد وعشق ديني، وضمن عاطفة دينية مشبوبة في الوقت نفسه، لذا فهو يُعد زاهداً يعيش في هذا العصر الحديث، وهذا هو التأثير المعنوي الكبير وراء حركته.
  والافتراء الآخر حول حركة محمد فتح الله كولن هو أنها تمول من الخارج، وهو افتراء مضحك لا يستحق الوقوف عنده، ولكن أذكر ملاحظة حول حساسية معينة أرى أنها تساعد على تحليل هذه الحركة فأقول، بأن من أهم أسباب ثقة الجماهير والرأي العام بهذه الحركة هي هذه الحساسية، وهي أن هذه الحركة إضافة إلى قيامها بصنع قيمها الاجتماعية والثقافية بنفسها، فهي أيضاً تصنع مصادرها المادية وتنتجها بنفسها أيضاً، إن الأعباء المادية والمعنوية للحركة تقع على كاهل المواطن التركي المؤمن والمضحي، وعلى المسلمين الممتلئين بمشاعر الحب لعقيدتهم ودينهم، ولم يقبل محمد فتح الله كولن أي مساعدة خارجية في أي أمر من الأمور، أو في أي ساحة من الساحات، لأنه عدّ هذا إهانة لهذه الأمة،( ) وأنا أعتقد بأن هذا الطرز من التصرف يكفي لرد الاتهامات عن الحركة في هذا الصدد.
الفصل الثالث
منهج فتح الله كولن في الإصلاح والدعوة إلى الإسلام

 يلاحظ أن حركة محمد فتح الله كولن لا تملك بنية أيديولوجية، ولم تسع إلى تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية، فقد عارض محمد فتح الله كولن تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية، أو تفسيره على هذا النحو؛ لذا كان من الخطأ النظر إلى حركة فتح الله كحركة دينية تتحرك ضمن أيديولوجية إسلامية كلاسيكية.
إن من الخطأ النظر إلى حركة فتح الله وكأنها حركة دينية صرفة، فلها ماهية وأهداف اجتماعية وثقافية، وقد تعود المحلّلون في الغرب على النظر إلى الحركات الدينية وكأنها حركات ردود فعل ضد الحداثة، ويحاولون على الدوام تصنيفها في إطار نظريات الأزمات، وسنقوم بفحص وتدقيق هذه النظرة فيما بعد بشكل مفصل.
ولا يكفي لفهم حركة فتح الله بشكل صحيح استعمال المفاهيم الاجتماعية الحديثة للحركات، ويجب التأكيد منذ البداية على أن هذه الحركة ليست حركة رد فعل، فلا علاقة لها بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردود فعلها، ولا علاقة لها بالحياة القروية والريفية، لأن القائمين بحمل أعباء هذه الحركة هم أكثر أفراد المجتمع ثقافة وقابلية، وهم ينتسبون إلى أفضل طبقات المجتمع، وهم أبناء المدن، وتلقوا تعليماً عاليًا، ويعرفون قيم العصر الحديث عن قرب، وهم كما لا يسعون لتشكيل دولة أيدولوجية، كذلك لا يقومون بنقد ورد أي أيدولوجية للدولة ولا ينشطون لمعارضتها ومخالفتها، ولا يتصرفون حسب ردود الفعل تصرفاً راديكالياً، ولم يكن الفقر باعثهم في الحركة، على النقيض من هذا لأن جميع تصرفاتهم وعلاقاتهم قائمة على أساس الحوار والتفاهم وقبول الآخر، وجميع تصرفاتهم وعلاقاتهم مع المجتمع ومع الأفراد الآخرين قائمة على أساس إيجابي، وبدلاً من سلوك طريق القوة والعنف وطريق الهدم والانقلاب، سلكوا طريق تقديم البدائل دون أن يخلوا بالنظام القائم، فهذا في رأيهم أفضل وأكثر ثماراً، وأنت تجد في جميع علاقاتهم أنهم اتخذوا الفرد والمجتمع والإنسانية هدفاً وغاية لهم.




الفصل الرابع
الجوانب الاجتماعية عند كولن

أ - أسس الحوار والتسامح وقبول الآخر عند كولن.

يُعد الحوار وقبول الآخر أهم سمة من سمات حركة محمد فتح الله وديناميكيتها، وهذان المفهومان اللذان تطورا بمقياس صغير في العالم بدأا ينقلبان إلى سمة ثقافية على نطاق عالمي، إن العيش معاً دون نزاع أصبح من الأهداف ومن المشاكل التي تبحث الدول الحديثة عن وسائل تدعيمه ووضع فلسفته، ولم يكتسب الحوار وقبول الآخر في أي عهد من عهود التاريخ أهمية كأهميته الحالية، ولا كانت ثقافة الحوار ضرورية كضرورتها الآن.
وهكذا فإن حركة فتح الله كولن تعدّ على المستوى الدولي من أبرز محاولات البحث عن أرضية للحوار والتفاهم المشترك، وأبرز مثال لها، ويُسند فتح الله هذه المحاولات بأدلّة دينية وفقهية وفلسفية، وما فعالياته في التعليم والتربية على المستوى الدولي، وتأسيسه المدارس العديدة في مختلف الدول إلا لكي تكون هذه المدارس جسوراً بين الأديان والحضارات المختلفة.
ب - لا تستند الحركة إلى أي كتلة سياسية:

ثم إن محمد فتح الله كولن لم ينخرط في أي وقت من الأوقات في أي فعالية سياسية أو حزبية، فمثل هذه الفعاليات عادة ما تكون مغامرات ذات عمر قصير، لذا فقد كثّف نشاطه ليهب المجتمع فوائد اجتماعية وثقافية على المدى البعيد علاوة على كل ما يتعلق بسعادته الأخروية والأبدية، وبكل ما يؤدي إلى تشكيل مجتمع مؤمن، وحياته التي قاربت السبعين عاماً ونشاطاته لخمسين عاماً، شاهد بارز على هذا، إن القيام بحفظ منافع المجتمع وحقوقه السياسية وتطويرها وتمثيلها هو من مهمات السياسيين، وهو كمؤمن حريص على إيمانه وكمواطن مدني اعتيادي توجه إلى الساحات المدنية بنشاطه، وتتطلب هذه الساحات تضحيات كبيرة وعملاً لسنوات طويلة دون انتظار أي مقابل، وأناساً نذروا أنفسهم في صالح المجتمع وفي سبيل إسعاد مستقبله، أما الحركات السياسية فهي تتوقع –مهما كانت الأسماء وراءها– منافع معينة، بينما يجب على المسلم وعلى المؤمن الخالص الإيمان ألا يتوقع من المجتمع أي منافع خاصة، لذا لا تقبل حركة محمد فتح الله كولن أي عمل –حتى بشكل مؤقت– يهدف للوصول إلى أغراض سياسية.

                ج- تشجيع إنشاء المدارس الحديثة الخاصة:

 وفي بداية السبعينيات حاول تطبيق خطته في التعليم والتربية على الطلاب الشباب آنذاك، ثم في المدارس التي أنشأها في معظم بلدان العالم، فانتقل من النظرية إلى التطبيق العملي.
  وقد حاول فتح الله كولن لسنوات عديدة في خطبه ومواعظه بشكل مباشر أو غير مباشر إقناع وتنوير الأوساط المحافظة بفائدة مشاريع التربية والتعليم، وخطا خطوات فعلية في هذا المجال ليكون قدوة لهم، كما بذل جهداً كبيراً في إقناع الأوساط الحكومية الرسمية بأنه لا يستهدف من هذه المشاريع سوى مصلحة الجماهير وخدمة الروح والهوية الملية، ولا يحمل أي هدف سياسي أو أيدولوجي، وقد كانت المؤسسة التي أنشأها لهذا الغرض مؤسسة مدنية أفرزها النشاط المدني؛ إذ لم يكن يوجد فيها أي تجمع أو أي معارضة سياسية، ولم تتوجّه هذه المؤسسة إلى أي هدف يتعارض مع أهداف الدولة القائمة، ولا إلى أي غاية تتصادم مع القيم الرسمية للدولة؛ لأن الجهود كلها كانت موجهة نحو تعليم وتربية الشباب والجماهير.
  وقد بدأ فتح الله كولن شخصا من الأشخاص النادرين في التاريخ الإسلامي الذي تستمع لخطبه ومواعظه كتلة كبيرة من الجماهير من مختلف الثقافات والأطياف، وفي التسعينيات بدأت هذه المدارس (الابتدائية والثانوية) التي أنشأها في تركيا بالاشتراك في المسابقات العلمية العالمية، وجلبت إليها الأنظار بالنتائج الجيدة التي حصلت عليها في هذه المسابقات العالمية، والنجاحات الرائعة التي سجلتها فيها، كان هذا دليلاً على أن هذه المدارس أُرسيت على قواعد علمية رصينة، وبتعبير آخر كانت هنا إشارة إلى مدى نجاح.

د - مشروع التربية والتعليم الذي بدأه فتح الله كولن ووضع على عاتقه مهمة إنجازه:

  أصبح فتح الله كولن بفعالياته هذه ونشاطاته حديث الساعة في تركيا، وبؤرة اهتمام كبار موظفي الدولة ورجال السياسة المحايدين، والأكاديميين والأوساط المثقفة ووسائل الإعلام، وأصبحت أعوام التسعينيات، أعوام الانطلاق إلى العالم الخارجي من جهة، ومن جهة أخرى أعوام إجراء الحوارات مع مختلف الفئات وبشكل واسع، أي بدأ عهد حوار لم يحدث مثيل له في التاريخ الحديث لتركيا، بينما كانت تركيا قبل الثمانينيات مسرحاً لنزاع وصدام العديد من الحركات ومن التيارات الأيدولوجية، وقد قتل الآلاف من الشباب في أثناء الصدامات التي جرت في هذه الحركات الشبابية، واهتزت تركيا من أعماقها من النزاعات الأيدولوجية التي عمّت أيضا العالم كله، ولكن فتح الله كولن استطاع أن ينقذ محبيه والجماهير العريضة التي كان يخاطبها من الانزلاق إلى هذه النزاعات والخصومات، ويبعدهم عنها، وأبدى في هذا الأمر عناية خاصة بصبر وتأنٍ.
الفصل الخامس
الجوانب الروحية عند فتح الله كولن

وسلم  مركزية عصر النبوة في فكر فتح الله كولن وكتابه "النور الخالد مفخرة الإنسانية" صلى الله عليه
 لا شك أن من أهم المثل التي تمثل الجانب الإسلامي الاجتماعي والتاريخي في حركة محمد فتح الله كولن، هي اتخاذه عصر النبوة والراشدين مرجعاً، فهذه المثل والقيم ترجع –كما في الحركات المشابهة الأخرى– إلى العصر الإسلامي الأول وتتمسك به، فمنظومة هذه القيم تستند بمقياس كبير إلى طراز حياة الصحابة، كما أن هذه الفترة التاريخية القصيرة نسبياً هي التي شكلت الخطوط العريضة للتفكير السني بكل جوانبه، وهي التي أعطت مثالاً عملياً وواقعياً له.
  إن المثل العليا لحركة فتح الله كولن، تكمن بشكل مباشر أو غير مباشر مع التطبيق العملي لهذا العصر، لذا فعلى من يرغب في تحليل هذه الحركة أن يضع في اعتباره تمسك هذه الحركة وتمسك هذه الجماعة بقيم عصر النبوة، فجميع القوى الداخلية المحركة للجماعة متلائمة ومتناغمة مع قيم ذلك العصر، فإن تم إهمال هذا الأمر فلا يمكن تحليل حركة فتح الله كولن بشكل حقيقي وصحيح، بينما يمثل عصر النبوة والراشدين في حركة فتح الله كولن، مثالاً أعلى من جهة وأنموذجاً للحياة الواقعية الحالية، والدليل على هذا أن العديد من الذين وهبوا قلوبهم لهذه الحركة، قاموا بتضحيات لم يشاهد مثلها في التاريخ الإسلامي، إلا في عصر السعادة (عصر النبوة والراشدين)، أما الجماهير التي حملت قيم هذه الحركة فقد أبدوا إخلاصاً وتضحيات قريبة من إخلاص ذلك العصر وتضحياته، لذا فإن عصر السعادة لا يبقى مثالاً جامداً، بل مثالاً حركيا، لأن هناك خطورة من انقلاب مثل هذه المُثل إلى مجرد حنين مشلول مرتبط إلى الماضي، وأي حركة تتحول إلى جماعة تتحدث باسم مجتمع لم يعد موجوداً، ستدخل في مرحلة التفتت والاضمحلال، وقد أثارت حركة محمد فتح الله كولن في قلوب الشباب حماسة التمسك بهذه المثل وحالت بذلك انقلابها إلى مجرد حنين أجوف إلى الماضي.
      التربية الدينية هي الأهم والأساس في نظر كولن:

  فتح الله كولن يؤكد دائما أن الإنسان المتدين الحقيقي سيكون ذا فائدة كبيرة للمجتمع وللدولة وعاملاً في رقيهما، وبينما نرى أن المفكرين المعاصرين يركزون اهتمامهم على مسائل معينة كالدولة والمدنية والاقتصاد، نرى أن فتح الله كولن يتّجه إلى "الإنسان" الموجود في أسس هذه الاهتمامات، وهو يرى أن أهم مشكلة في المدنية المعاصرة هي مشكلة تعليم وإعداد الإنسان وتربيته، فإن أصبح الإنسان إنساناً فاضلاً، أصبحت الدولة فاضلة، وكذلك المدنية والاقتصاد، ثم إن فتح الله كولن لم يتناول الإنسان كموضوع لنقاش على المستوى الثقافي، بل حول هذا الموضوع إلى مشروع جدي في الحياة العملية.
  ولكن محمد فتح الله حاول تجربة تقديم خط جديد في هذا الصدد، فهو من جهة متمسك بشعور الثقة التي تهبها قيم التقاليد، ومتمسك من جهة أخرى بالقيم الاجتماعية الجديدة، حيث كانت هذه محاولة كبيرة في عملية التركيب الفكري.
  كان فتح الله يرصد التغير الثقافي عن قرب، لم يكن رجلاً محافظاً يكتفي فقط برصد التطورات والتغيرات الاجتماعية ويتركها لتيار الزمن، ولم يكتف –كرجل محافظ– بمشاعر عاطفية، والتحسر على التغيرات الاجتماعية والأخلاقية التي تجري أمام ناظريه، بل استعمل مخزونه الشخصي وتجاربه أمام هذه التغيرات ونسج علاقات فعالة معها، أي فضّل الاستعانة بالقيم التقليدية التي تملك ماضياً عريقاً وطويلاً والمساهمة بها بشكل واعٍ في التغيرات الاجتماعية اليومية، أي وسع مثله الأخلاقية والشخصية والثقافية.
  دخل فتح الله كولن محيط هذه الأفكار وهو في الخامسة عشرة من عمره، فقد كان شابًّا يافعاً نضج مبكراً، والحقيقة أنه لم يعش لا طفولته ولا شبابه، فبيئته المحافظة والمدرسة الدينية التي درس فيها جعلته شابًّا ناضجاً في وقت مبكر، كان يحمل في قلبه تجربة روحية ومعنوية عميقة، وفي عقله نشاطاً وحماسة كبيرة.
الفصل السادس
البناء الحضاري في فكر "فتح الله كولن"[1]

   في إطار التعريف بفكر الأستاذ "محمد فتح الله كولن"، نجد أن هذا المفكر المجدد النهضوي يبحث حقيقة عن كشف جوانب التفرد والخصوصية في مناهج التنقيب عن آليات حفر التكلس الحضاري لأمتنا، محاولاً إيجاد أدوات بحث كفيلة بتذويب وتفكيك عقد داء الانفصام الحضاري، وتبيان أن كيان الأمة فيه من القوة والمناعة ما يؤهله لخوض منافسات حضارية عالمية إن هو امتثل لمراجعة أطباء الفكر وصناع مجد النهضة، والتزم بتوجيهات وصفاتهم المعرفية لإعادة بناء الذات واكتساب قوة المناعة ضد معيقات الفعل الحضاري عامة.
  إن خطة "الأستاذ فتح الله كولن" وإستراتجيته في البناء الحضاري وأسلوبه في الإصلاح والتجديد، يعكس فكره وفلسفته في الحضارة، وفي التاريخ والحاضر والرؤية المستقبلية، وهي خطة تعتمد على منهج الفعل أكثر من منهج التنظير والقول، حيث استطاع ببعد فكره الثاقب أن ينقل الإنسان من مرحلة التعبير عن وضع عالم التخلف والانحطاط، والبكاء على مظلومية من سبب تخلف أوضاعه وقهر تطلعاته و آماله إلى مرحلة الإنجاز والفاعلية وتقوية الإرادة بتزكية النفس والروح، وتسخيرهما معًا نحو الفعل والعطاء والإيثار، وهي الوسائل والسبل الكفيلة بالانتقال من عالم التخلف إلى عالم التجديد والتحضر، من عالم الوقوف عند نقطة البدء إلى عالم الانطلاق نحو الأفق الحضاري، من عقلية الاتكال والانهزام والمؤامرة إلى عقلية الإرادة والتفاؤل والانجاز والمحاسبة، وهي إستراتيجية حقًا تستحق العناية والاهتمام البالغ في الفكر النهضوي المعاصر للعالم الإسلامي، وجديرة بالدراسة والبحث والاستثمار.
  إن الإشكالية التي يعالجها المفكر "فتح الله" في هذا الكتاب هي تأسس للآليات إستراتيجية البناء الحضاري، تدور حول البحث عما تتميز به هذه الإستراتيجية عن غيرها من المحاولات الفكرية والمبادرات الفلسفية التي سبقتها أو تلك التي عاصرتها، ومحاولة الأستاذ "فتح الله" أفرزتها ظروف تاريخية دينية وفكرية و سياسية و اجتماعية، عرفها العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، وشاهدتها المحاولات الإصلاحية الأخرى لكنها لم تكن في مستوى محاولة المفكر "فتح الله كولن". إذ ركز على نظرية الحضارة وعلى أسس ومعالم وملامح فلسفة هذه النظرية، كما وقف على ظاهرة التجديد الحضاري من حيث:
. - أسس بناء الثقافة الرصينة والاحتفاظ بالجذور الروحية
. - دور الجاهزية النفسية في البيئة الداخلية محور الذات
. - آليات التمكين الذاتي والمجتمعي
. - موازنة الفرد فلا وقوف عند السكون والجمود ولا فوضى في الحركية الغير ممنهجة
  إن خاصية ملمح إستراتيجية التجديد الحضاري عند المفكر "فتح الله" تستند إلى تحريك الإيمان كمولد الطاقة الدينامو الأساس للإنسان الحركي، والعبادة سند الوقاية المناعية والأخلاق الإنسانية العلامة المميزة لنجاح أسس النهضة، كما ترتكز على وظيفة العقل كمركز لحراسة الروح من الاضطراب وأداة لتوجيه الإنسان نحو التفكر والإدراك والفهم، كما اهتم بمراعاة أولوية المستقبل في بناء الفهم الثقافي مع استحضار الزمن التالي وتطويره في الزمن الذاتي لاستشراف المستقبل، فتفهم حركية الوحي ومصادر الشريعة روح الإسلام تحفز قوة الإرادة الفردية وتصون الروح والعقل معًا، وتحصن الفرد بلقاح الممانعة نحو سبل تجنب أسباب التراجع والهبوط الحضاري، كما تؤهله نحو الرقي والتميز داخل فضاء المنافسة الحضارية العالمية.
   وبالتالي فخصوصية المفكر "فتح الله" تكمن في رؤيته المستقبلية لطرق وآليات البناء الحضاري، وذلك بالنزول الفوري إلى مختبرات الواقع بخطة استعجالية تحفز روح الإرادة والفاعلية لدى جيل الناشئة، وتقوية عنصر الثقافة الذاتية وإحياء مبادرة تفعيل قدرة الانجاز وتحريك قابلية، وهي خطة لم تدعُ فقط إلى النفير الحضاري، وإنما إلى عقد حزمة النفير بالنزول إلى واقع التعليم وتطوير إستراتيجية الفكر والتعليم باستلهام أقوى المناهج التربوية المستقاة من المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي -القرآن الكريم والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والمصلحة والتصوف وعلم الكلام والعرف والعادة والعمل-، وهي مناهج كفايات معرفية ذاتية حركت عقلية الإنتاج المعرفي لإبداع منهج الزمر، كما استلهمت منهج السنة النبوية في الكفايات النفسية من خلال التزكية التربوية، باستثمار منهج الصحبة في التوجيه والترشيد والتتبع الأخلاقي للمعارف.
  إن المفكر "فتح الله" استطاع فعلاً أن يحرك النفير الحضاري في تركيا حين استقطب أبناء النفير من مهندسي عالم الفكر، وحولهم إلى بناة جسور المعرفة والفكر في البلاد من أدناها إلى أقصاها عبر مشاغل البحث في الثقافة الذاتية ومدارس تحتضن مناهج ذاتية غير مستوردة؛ مناهج تخدم مستقبل بيئة فلسفية لواقع حياة المسلم الذاتية، وقد اعتمدت خطة رؤيته المستقبلية النزولَ إلى مختبرات تركيب وتحليل لمنطق محاكمة العقل الذاتي للفرد المؤهل بثقافته الرصينة، للانبعاث الثقافي وجودة الإنتاج والعطاء الحضاري محليًّا وعالميًّا.
   إن منهج الرؤية المستقبلية للمفكر "فتح الله كولن" تكمن في قدرته على فك لغز الكلمة المفتاحية لفتح القلوب حين حلل خصائص الشهادة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وبين أن كل الخصائص الإيمانية -حسب الإسلام- تتأسس على هاتين الجملتين الوجيزتين اللتين هما تعبير عن حقيقة لها وجهان؛ أحدهما غاية، والآخر وسيلة. ثم ربط الخصائص الإيمانية بالمعرفة الإنسانية وضبط حركية العطاء المعرفي بدينامو الإيمان الروحي، فالإيمان الذي هو كشجرة "طوبى" تنشأ من هذه البذرة فتغطي بما تؤتي من ثمار المعرفة سماءَ حس الإنسان وشعوره وإدراكه، ثم تستحيل العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرص بحملة داخلية وشعور وحس داخلي، ليحاصر ذاك الإنسانَ من كل جهة، فيصيّره إنسانًا جديدًا قائمًا على محور الوجدان، فتنعكس هذه الحالُ على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق، وتتمحور حملاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها حول هذه القوة الجاذبة "إلى المركز".
كما استلهم خطه الاستشرافي الرسالي الحضاري بالوقفة النبوية مع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأليات بناءه الحضاري، حيث ركز على العناصر الأساسية التي ساهمت في تشكيل الظاهرة الحركية الإرادية الإنجازية التغييرية لزمن النبوة وهي:
 - عالم العقيدة الإسلامية؛ الله، الكون، الإنسان.
. - المنهج النبوي في البناء الحضاري -مرتبط بالسنن وبمنهج روح الايمان وإكسير الوحي الذي يرشد به الأنبياء خط فاعلية الشهود الحضاري.-
-   الإنسان بمواريثه وأمراضه الكونية والاجتماعية عليه أن يتذكر ما تذكره أجداده في العصور الذهبية بأنهم خلفاء الله في الأرض. عليه أن يتحرر من قيود التبعية والتقليد وأن يجدد في دائرة مقوماته الذاتية يبحث ويتعمق في الفهم على الدوام، حتى يصير أستاذًا يعلم الإنسانية دروسًا في قيم رحاب معارف الحضارة العالمية.
  - ثقافة المجتمع وتاريخه ومؤسساته ميراث الإنسانية عمومًا؛ فعملية التأثير والتأثر بين فلسفة الحياة لأي مجتمع ونمط سلوكيته هي الطريقة المثلى لتوحُّد المجتمع وتَطابُقه مع فلسفة حياته وأسلوبه الذاتي وطبيعته التاريخية، حتى يصبح مجتمعًا مستقرًّا بماضيه وحاضره ومنفتحًا على العقل والفكر والوحي.. وإلا فإن الأمور الفلكلورية التي لم يكتمل سياق تطورها والتي تم نسجها من العادات والتقاليد والهويات وما يُشبِع الغرائزَ والأذواق.. حتى المؤلّهة منها ما هي إلا نماذج خادعة من العدم والعوز الثقافي.
  وبالتالي فالثقافة بالنسبة لـ"فتح الله" تكتمل بالانفتاح على كل الأنشطة الفكرية والذهنية المرتبطة بواقع الإنسان، وخلاصةٌ وعصارةٌ للخلطة المشتركة لتلك الأنشطة. لذلك فإن الواجب يحتم علينا حسب المفكر "فتح الله كولن" أن نكافح من أجل الحفاظ على ذاتيتنا بالارتباط بمنظومتنا العقدية والفكرية والتوجه نحو ثقافتنا ونتاجها، وأن نقوم بتحقيق ألوان جديدة من الفكر والعرفان -إذا اقتضى الأمر- فوق أطلسنا الفكري.



البيئة المؤسسة للبناء الحضاري:
 
  البيئة ظلَّت مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات سابقها وحاضرها. ويسميها المفكر "فتح الله كولن" بـ"البيئة العامة" التي تتكون حركية شمولية الثقافة التي تتنفسها جميع شرائح المجتمع كالهواء، وترتشفها كالماء وتشمها كالزهور وتصغي إليها كالطبيعة. فالثقافة إنما تتسع وتحوز على قدرة التأثير الدائم بهذه "الشمولية". وهي من أهم المقومات التي تُوصل الفرد والمجتمع إلى درجة النضج من الجهة النفسية والأخلاقية.
  إن المجتمع السليم الواعد بمستقبل مشرق يتكون من أفراد سليمين هم منه كالجزء من الكل، ولكن -من جانب آخر- وجودُ أفراد منضبطين وممتازين وتطورُهم لا يتم إلا في مجتمع سليم كهذا، وإن كان هذا المقترب يؤدي بنا إلى نوع من "الدور المحال". فإن بيئة عامرة بتراثنا الثري ستؤثر في كل وقت في العالِم والجاهل والشاب والكهل والبدوي والحضري والمفكر والسارب في هواه.. وما إن يفتح هؤلاء أعينهم ويرتبطون بما حولهم حتى يوحي المحيطُ والجو العام إليهم دائمًا بأمور ويحاسبهم ويحاورهم.. وبوارداتها وغناها أو بفقرها أو بوسطها النفسي والمادي قد تغذيهم وتربيهم وتعمرهم، أو تقوض عواطفهم وأفكارهم وتحيل كل شيء إلى خراب.
  وقد لا يتسنى للإنسان أن يحس على وجه تام بمدى التأثير الذي يحدثه جو "روح الأمة" على أي مجتمع وعلى أفراده من كل النواحي، ولكن ينبغي أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من التفرعات والتفاصيل الجزئية في العالم النفسي أو المادي، والتي بدت هينة ومستصغرة، قد فتحت الأبواب لاكتشافات ومبادرات واختراعات تتعدى الخيال في أهميتها. ففي بعض المواقف فار وجدانٌ بملاحظةِ ترقُّبِ قطة لجحر فأر بلا توان.. وانكشفت آفاق واسعة أمام عقول فكرت في التناغم البديع لمجتمع النمل والنحل الذي لا يضاهِي كمالَه أعظمُ الجمهوريات كمالاً.. وكم من أمر مستصغر في عالم المادة أذكى نار أذهان وقادة.
  إن المجتمعات المتطورة والمتقدمة اليوم كانت من قبلُ تعاني ما نعانيه اليوم،. ثم جاءتها أيامٌ فُتحت فيها أبواب التجديد على مصاريعها بفضل ما كانوا يتمتعون به من شوق البحث وعشق العلم وحثيث العمل ومكافأةِ من وُفقوا بأجزل المكافآت. فتحقق النجاح إثر النجاح مما أدى إلى فوران العزم وشحذ التوق وصارت البيئة عندهم مشاتل تحتضن فسائل العبقرية.. فتتابع الاختراع من مكائن البخار إلى مصانع النسيج، ومن مختبرات الأبحاث إلى المطابع.. وبلغوا بعد مدة عصرَ العلم والعقول الالكترونية.
ولما كافأ الذين يقدِّرون العلم في تلك الأيام الكشوفات والاختراعات والأبحاث العلمية، صاروا وسيلة لانكشاف القابليات العظيمة في كل مكان لتجد فرصتها في النماء والتطور، فكأنّ أطراف أرضهم معرض العجائب لأعمال النوابغ الذين لا يعرفون الفتور.
  وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي.. إبان تحقق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استخدم الغرب ما توارثه من المكتسبات خير استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسم القرون الأخيرة بسمته، والنموذج واضح بالنسبة لنهضة ألمانيا واليابان.




. المدرسة كمعجزة حضارية، وكمنهج تغييري

المدرسة في نظر المفكر "فتح الله" هي قاطرة المستقبل بقدر ما تكون متوجهة نحو الهدف ومتسمة بالعمق، تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة بشرط أن تُصهر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية، وإلا فمن البدهي أن المدرسة لن تستطيع حل المشاكل الفردية والاجتماعية. إن المدرسة باعتبارها دائرة تخطيط ومركز مشروع من الممكن أن تعني شيئًا بقدر ما يستمع الوجدانُ الاجتماعي إلى صوت شيء من برامجها المنسجمة مع الأخلاق العامة وثقافة الأمة.. ولكن من العسير جدًّا -بل من المحال- أن نستدل على أنموذج واحد أنجزته المدرسة بوحدها، المدرسة أعطت ثمارها بمقدار أهميتها. والبناء الحضاري يأتي بدرجة دمج ما ألهمته المدارس من العلوم والتجارب العالمية بهويتنا الثقافية، وتغذيتها بأسس الجذور المعنوية لتراكماتنا وتجاربنا العلمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
  فالقدرة على فهم هذه العناصر في سياقها الاجتماعي والعضوي هو الذي سيكشف لنا عن معالم المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية من خلال تقديمه لنموذج من نماذجها، وهو المثل الكامل والقدوة الحضارية التي تمثل معيار البناء الحضاري الإسلامي، وبالتالي فإن استلهام المفكر "فتح الله" كولن أسس البناء الحضاري من المنهج النبوي في بناء النموذج الأول للحضارة العالمية ووضع برنامجه، وتأسيس قواعده وترسيم حدوده، وصياغة منهجيته وتحديد وجهته وتعليم مقاصده، كان مبنيًّا ومرتبطًا ومنسجمًا في كل محطاته مع أصول الوحي الأعلى الذي أدار أسس البناء الحضاري في فلسفة الأستاذ "فتح الله" حول الإنسان كفرد (الأصناف –الزمر-)، وكمجتمع (الخدمة- الهمة)، وكأمة (التولي)، وكإنسانية (الانفتاح والرحمة)، فدراسة استراتيجية البناء الحضاري لدى المفكر "فتح الله كولن"، هي دراسة في منهج البناء الذاتي العميق للإنسان بدينامو حركية الايمان والبيئة التمكينة، والانفتاح الثقافي المتوج بحصانة الذات وتأهيلها لعملية أستاذية البناء الحضاري الإنساني، ولعل الدارس لفكر الأستاذ "فتح الله كولن"، يعي تمامًا قيمة هذه الرؤية المستقبلية في البناء النهضوي الحضاري الانساني وفق فلسفة هذا المنهج الاستشرافي المستقبلي، ومشروعه، وغاياته، ومقاصده، وأدواته، وشروطه، وأساليبه، ومنهجيته.

بقلم : جواد الدهبي


[1] - مقال لدكتورة مريم أيت أحمد- كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة ابن طفيل ، "القنيطرة"المغرب.

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة ثقف نفسك 2016 - 2017