-->
»نشرت فى : »بواسطة : »ليست هناك تعليقات

زكاة الثروة الزراعية

فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية


هذه الزكاة واجبة بدليل من القرآن والسنة والإجماع والمعقول:
القرآن
فقوله تعالي : (( ياآيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ماكسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولاتيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه))[1].
والأمر بالإنفاق للوجوب، وقد جعله الله تعالي من مقتضي الإيمان، والقرآن كثيرا مايعبر عن الزكاة بالإنفاق. قال الجصاص : قوله تعالي (( أنفقوا)) المراد به : الصدقة، والدليل عليه قوله تعالي: (( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون )) يعني : تتصدقون، ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة[2].
وقال تعالي : (( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات[3] والنخل والزرع مختلفا أكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ))[4].
ذهب كثير من السلف إلي أن المراد بالحق هنا هو الزكاة المفروضة: العشر أو نصف العشر.
روي أبو جعفر الطبري بسنده عن أنس بن مالك في تفسير الآية قال: الزكاة المفروضة وعن ابن عباس من أكثر من طريق قال: العشر ونصف العشر، وفي رواية عنه قال : يعني بحقه : زكاته المفروضة، يوم يكال ويعلم كيله.
وروي أيضا عن جابر بن زيد والحسن وسعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وطاووس وقتادة والضحاك: أنه الزكاة أو الصدقة المفروضة أو العشر أو نصف العشر[5] تختلف العبارات والمقصود واحد.
قال القرطبي : ورواه ابن وهب وبن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي[6]، وإلي هذا القول ذهب أبو حنيفة وأصحابه[7].
من السنة
فروي ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر[8].
والمراد بالعثري : ما يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي.
وعن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم : وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالساقية نصف العشور ))[9]
وجائت أحاديث أخري في تحديد نصاب الزروع والثمار، وفي بعث السعاة وغير ذلك.
الإجماع
وأما الإجاع فقد أجمعت الأمة علي وجوب العشر أو نصفه فيما أخرجته الأرض في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل[10].
وأما المعقول : فكما ذكرنا في حكمة مشروعية الزكاة، لأن إخراج العشر إلي الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته علي القيام بالفرائض. ومن باب تطهير النفس عن الذنوب وتزكيتها، وكل ذلك لازم عقلا وشرعا.
الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة
وإذا كانت زكاة الخارج من الأرض من زرع وثمر ثابتة في الجملة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، كما قرر العلماء فأي هذه الحاصلات الزراعية يجب فيها الزكاة المعلومة، العشر أو نصفه؟ أيجب في كل مايخرج من الأرض أم في بعضه؟ وما هذا البعض؟ وما وجه تخصيصه؟
اختلفت المذاهب اختلافا بينا
مذهب ابن عمر وطائفة من السلف : وجوب الزكاة في الأقوات الأربعة الخاصة
ذهب ابن عمر وبعض التابعين ومن بعدهم أن لازكاة في شيء من الحبوب غير الحنطة والشعير، ولا شيء في ثمار الفاكهة إلا في التمر والزبيب.
وهو رواية عن أحمد، وموسي بن طلحة، والحسن، وبن سرين، والشعبي، والحسن بن الصالح، وابن أبي ليلي، وبن المبارك، وأبي عبيد[11] ووافقهم إبراهيم وزاد الذرة[12].
واحتاج أصحاب هذا القول:
بما روي ابن ماجة والدار القطني عن عمرو بن الشعيب عن أبيه عن جده أنه قال : (( إنما سن رسول الله صلي الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب)) وزاد ابن ماجه (( الذرة ))[13].
وبما روي عن أبي بردة عن أبي موسي ومعاذ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم نعثهما إلي اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من الأربعة :الحنطة والشعير والتمر والزبيب[14].
ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيه ولا إجماع ولاهو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها، فيبقي علي الأصل.
مذهب مالك والشافعي : الزكاة في كل ما يقتات ويدخر
ذهب مالك والشافعي إلي أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر، وييبس من الحبوب والثمار، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز وما أشبه ذلك، والمراد بالمقتات : ما يتخذه الناس قوتا يعيشون به في حال الاختيار لا في الضرورة، فلا زكاة عندالمالكية والشافعية في الجوز واللوز والبندق والفستق وماكان مثلها، وإن كان ذلك مما يدخر، لأنه ليس مما يقتات الناس به، وكذلك لازكاة في التفاح والرمان ولا في الكمثري والخوخ والبرقوق ونحوها لأنها مما لاييبس ولا يدخر.
واختلف المالكية في التين، فذهب جماعة منهم إلي أن لا زكاة في التين، وذلك أن مالكا قال في الموطأ : (( السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم : أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة : الرمان والفرسك[15] والتين، وما أشبه ذلك ومالم سشبهه إذا كان من الفواكه)) [16].
قال أبو عمر ابن عبد البر : (( فادخل التين في هذا الباب، وأظنه – والله أعلم- لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان، وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابهم أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، يرونه مذهب مالك علي أصوله عندهم[17])).
وذكر الخرشي في شرحه علي متن (( خليل)) : أن الزكاة تجب في عشرين نوعا : القطاني السبعة : الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجلبان والبسيلة. وأيضا القمح والشعير والسلت والعلس والأرز والذرة والدخن والزبيب، وأيضا الأربعة ذوات الزيوت وهي : الزيتون والجلجلان –أي السمسم – وحب الفجل (أي الأحمر) والقرطم والتمر. فلاتجب في التين –علي المعتمد- ولا في قصب ولافاكهة ولا في حب الفجل (أي الأبيض) والعصفر والكتان، ولا في التوابل ونحو ذلك[18].
قال القرطبي، وقال الشافعي : لازكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب، لأن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما، وكانا قوتا بالحجاز يدخر.
قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولازكاة فيهما، لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة.
قال الشافعي : ولازكاة في الزيتون لقوله تعالي : ((والزيتون والرمان [19])) فقرنه مع الرمان ولازكاة فيه.
هذا قول الشافعي بمصر، وله قول بالعراق : أن فيه الزكاة[20].
ولم يختلف قول مالك في الزيتون –يعني أن فيه الزكاة- فقد ذكر في الموطأ أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون، قال القرطبي : قال : فيه العشر [21].
ويدل هذا علي أن الآية عندهما محكمة غير منسوخة، واتفقا جميعا علي أن لازكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه[22].
واستدل صاحب المهذب وشارحه لمهذب الشافعي بأمرين:           
الأول – حديث معاذ بن جبل، وفيه :
(( فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم )) رواه البيهقي في السنن الكبري، وروي جملة أحاديث ثم قال : هذه الأحاديث كلها مراسيل،إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضا، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم ثم روي عن علي وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
الثاني – أن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية[23].
وكلا الدليلين لايكفي لمقاومة عموم القرآن والسنة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض وما سقت السماء. وبحث بعض المالكية في ثمن ما يباع من غلة البساطين التي تتخذ للغلة مما لازكاة فيه عندهم كالتفاح ونحوه. فأشار إلي خلاف فيه، هل يستقبل صاحبه بالثمن حولا أم يعامله كعروض المحتكر، فيزكي كل ما يبيعه منها في الحال؟. لم يفصل القول في ذلك في شرح الرسالة، وأحاله علي المطولات[24].
مذهب أحمد : في كل ما ييبس ويبقي ويكال.
ونقل عن أحمد عدة أقوال. أظهرها وأشهرها ما ذكره في المغني[25]: أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف : الكيل والبقاء واليبس –من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه : سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت الأرز والذرة والدخن أو من القطنيات كالباقلا (الفول) والعدس والماش، والحمص، أو من الأبازير : كالاكسفرة والكمون والكراويا، أو البذرة : كبذر الكتان والقثاء والخيار، أو من حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم، والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار : كالتمر والزبيب والمشمش –أي المجفف- واللوز والفستق والبندق.
(( ولازكاة في سائر الفواكة كالخوخ والكمثري والتفاح والمشمش. ولا في الخضر : كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر. وبهذا قال عطاء في الحبوب كله. ونحوه قول أبي يوسف ومحمد)) ا ه
فلم يشترط الإنبات كما اشترط المذهب السابق.
والدليل علي هذا القول : أن عموم قوله صلي الله عليه وسلم ((فيما سقت السماء العشر))، وقوله لمعاذ (( خذ الحب من الحب [26])) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناله اللفظ، خرج منه مالا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلي الله عليه وسلم : (( وليس في حب ولاتمر صدقة حتي ينلغ خمسة أوسق[27])). رواه مسلم والنسائي، فدل هذا الحديث علي انتفاء الزكاة مما لا توثيق فيه، أي لا كيل. وأما فيما هو مكيل فيبقي علي العموم[28].
مذهب أبي حنيفة : في كل ما أخرجت الأرض الزكاة
وذهب أبو حنيفة إلي وجوب الزكاة – العشر أو نصفه- في كل ما أخرج الله من الأرض، مما يقصد بزراعته نماء الأرض، وتستغل به عادة.
ولهذا استثني الحطب والحشيش والقصب الفارسي، لأنها مما لايستنبته الناس في العادة في الأرض، بل تنفي عنها، حتي لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة أو منبتا للحشيش يجب فيها العشر[29].
فلم يشترط أن يكون الخارج من لأقوات، ولا أن يكون مما ييبس ويدخر، ولا أن يكون مما يكال، ولا أن يكون مأكولا.
ولذلك قال داود الظاهري وأصحابه – ما عدا ابن حزم-  أن في كل ما أنبتت الأرض الزكاة، ولا يستثنون شيئا،وهو قول النخعي – في إحدي الروايتين – وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد وحماد بن أبي سليمان[30].
وخالف أبا حنيفة صاحباه – أبو يوسف ومحمد- فيما ليس له ثمرة باقية[31] وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء ونحوها.
وعلي مذهب أبي حنيفة وصاحبيه : يجب إخراج الزكاة من قصب السكر والزعفران والقطن والكتان وما شابهها، وإن لم تكن مما يقتات أو يؤكل.
وعلي قول أبي حنيفة يجب إخراج العشر من الفواكه جميعها كالتفاح والكمثري والخوخ والمشمش والتين والمانجو وغيرها، سواء أكانت تجفف وتيبس أم لا، ويجب إخراج العشر عنده من الخضروات جميعا كالخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان والجزر واللفت والفجل وغيرها.
وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه:
أولا- عموم قوله تعالي في سورة البقرة (( ومما أخرجنا لكم من الأرض)) ولم يفرق بين مخرج ومخرج[32].
ثانيا- قوله تعالي : (( وآتوا حقه يوم حصاده)) وذلك بعد أن ذكر أنواع المأكولات – من الجنات – معروشات وغير معروشات- والنخل والزرع، والزيتون والرمان، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضروات، لأنها هي التي يتيسر إيتاء الحق منها يومالقطع، وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلي يوم التنقية[33].
ثالثا- قوله صلي الله عليه وسلم (( وفيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) من غير فصل بين ما يبقي ومالا يبقي، وما يؤكل ومالا يؤكل، وما يقتات ومالايقتات.
تعقيب وترجيح
وأولي هذه المذاهب بالترجيح هو مذهب أبي حنيفة الذي هو قول عمر ابن عبد العزيز ومجاهد وحماد وداود والنخعي : أن في كل ماأخرجت الأرض الزكاة[34]، فهو الذي يعضده عموم النصوص من القرآن والسنة، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من الحكمة – فيما يبدو لنا – أن يفرض الشارع الزكاة علي زارع الشعير والقمح، ويعفي صاحب البساتين من البرتقال أو المانجو أو التفاح. أما أحاديث حصر الصدقة في الأقوات الأربعة فلم يسلم فيها حديث من طعن[35]، أما بالانقطاع أو ضعف بعض الرواة –أو وقف ما ادعي رفعه- وعلي فرض التسليم بصحتها فقد تأولها ابن الملك وغيره من العلماء بأنه لم يكن ثمت غير الأربعة[36]، أو يحمل الحصر علي أنه إضافي لا حقيقي، ولهذا لم يأخذ به أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة.
والعجيب أن العلامة السيد رشيد رضا أيد هذا المذهب المضيق، وأضاف إلي الأربعة الذرة، كما في بعض الروايات.
وقد أيد ابن العربي الفقيه المالكي مذهب أبي حنيفة في أحكام القرآن.
وفي شرح الترمذي قال: وأقوي المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلا، وأحوطها للمساكين، وأولاها قياما بشك النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث.
وفي تفسير آية (( وآتوا حقه يوم حصاده)) أطال القول في تأييد مذهبأبي حنيفة والرد علي المذاهب الأخري.
قال : أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، وأوجبها في المأكول قوتا كان أو غيره، وبين النبي صلي الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله وفيما سقت السماء العشر.
فأما قول أحمد : إنه فيما يوسق لقوله صلي الله عليه وسلم ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) الحديث، فضعيف، لأن الذي يقتضيه ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في الثمر والحب، فأما سقوط الحق عما عداها فليسفي قوة الكلام. وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية) فدعوي ومعني ليس له أصل يرجع إليه، وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها علي مابيناهفي كتاب (القياس).
فكيف يذكر الله النعمة في القوت والفاكهة، وأوجب الحق فيها كلها، فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل، وفيما تنوع جنسه كالزرع، وفيما ينضاف إلي القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمةفي المتاع بلذة البصر، إلي استيفاء النعم في الظلم؟
فإن قيل : إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم، وأما في الخضر فلابقاء لها، ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها، وإنما أخذت من يابسها.
قلنا : إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه، واليبس انتهاء اليابس، والطيب انتهاء الأخضر، ولذلك إذاكان الرطب لايثمر، والعنب لايتزبب، تؤخذ الزكاة منهما علي حالهما، ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلافي اللذة، وركنا في النعمة ماوقع الامتنان بها في الجنة، ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال (( فيهما فاكهة ونخل ورمان)) فذكر النخل أصلا في المقتات،والرمان أصلا في الخضروات. أو لاينظرون إلي وجه امتنانهعلي العموم لكم ولأنعامكم بقوله: (( أنا صببنا الماء صبا. ثم شقينا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا))[37].
وأما الحديث الذي يروي عن النبي صلي الله عليه وسلم : (( ليس في الخضروات صدقة)) فضعيف الإسناد لايحتج بمثله[38]، فضلا علي أن يخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة.
وقد رواه الترمذي ثم قال : إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، فلايصح في هذا الباب شيء عن النبي صلي الله عليه وسلم[39].
علي أن للحديث محملا عند فقهاء الحنفية –علي فرض صحته- ومعناه : أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة، بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم. وذلك لأن الخضروات لابقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن تصل إلي المستحقين.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلي أهذ الزكاة من أثمان الخضروات لامن عينها، روي ذلك يحي بن آدم في (خراجه) عن الزهري قال :
((ماكان سوي القمح والشعير والنخل والعنب والسلت والزيتون، فإني أري أن تخرج صدقة من أثمانه)) السلت : نوع من الشعير لاقشر له يتزودون به في الصيف.
وعن عطاء الخراساني: (( ليس في الخضرة والجوز واللوزوالفاكهة كلها عشر، قال : فما بيع منه فبلغ مائتي درهم فصاعدا ففيه الزكاة. وروي نحو ذلك عن الشعبي[40].
وروي أبو عبيد هذا القول عن ميمون بن مهران – مع الزهري- ثم قال : وأظن الأوغاعي ثالثهما[41].. إلي أن الزهري جعل صدقتها صدقة النقدين، وكذلك ميمون بن مهران قال : ليس لها زكاة حتي تباع، فإذا بيعت فبلغت مائتي درهم، فإن فيها خمسة درهم.
وكذلك إذا كانت الثمار رطبا لايكون منه تمر، أو كانت عنبا لايكون منه زبيب، فإنه يحكي عن مالك –فيما ذكر أبو عبيد- أنه قال : إذا بلغ خرصه (تقديره بالتقريب) خمسة أوسق كان في ثمنه إذا بيع، في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وكذلك الزيتون الذي لايكون منه الزيت. صدقته علي هذا، غير أنه لايخرص إنما هو إلي مايرفعه أهله.
وقد أحسن هؤلاء الأئمة إذ أوجبوا الزكاة في أثمان الخضروات والفواكه التي لايمكن أن تؤخذ وتحفظ في بيت المال، بل يسرع إليها التلف والفساد. ولكني أخالفهم في مقدار الواجب هنا، فلا يصح أن يكون ربع العشر كما في زكاة النقدين، بل الواجب أن يكون العشر أونصفه، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه، ويقدر بقدره، فإن للبدل حكم المبدل.
وهذا ما يفهم من الروايات التي أطلقت أن فيها الزكاة بلا تحديد. وقد جاء عن الشعبي فيمن باع كرمه عنبا، قال : يخرج من ثمنه العشر أو نصف العشر[42].
وقال ابن أبي زيد في (الرسالة) :ويزكي الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته... فإذا باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله.
وقال ابن ناجي في شرحه :وهذا القول مروي عن مالك، قال : يخرج عشر الثمن .. قال : والمشهور من المذهب : أن الزيتون الذي له زيت إنما يخرج عنه الزيت فقط. ومالا زيت له يخرج من ثمنه[43].

النصاب في زكاة الزروع والثمار
مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
جمهور العلماء الأمة من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم علي أن الزكاة لاتجب في شيء من الزروع والثمار حتي يبلغ خمسة أوسق[44]، مستدلين بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) وهو حديث صحيح متفق عليه[45].
وذهب أبو حنيفة إلي أن الزكاة تجب في قليل ذلك وكثيره، لعموم قوله عليه السلام (( فيما سقت السماء العشر))، وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، ولأنه لايعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب[46].
وهو قول إبراهيم النخعي فيما رواه عنه يحيى بن آدم :في كل قليل أوكثير من الأرض صدقة : العصر أو نصف العشر[47].
وروي عن عطاء مثله.
وعن أبي رجاء العطاردي قال : كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتي ((دساتج)) الكراث.
قال ابن حزم : وعن مجاهد وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر. وهو عن عمر بن  عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبي سليمان في غاية الصحة[48]. فعن عمر بن عبد العزيز قال : في عشر ((دستجات)) بقل دستجة (حزمة).
وقال داود الظاهري : ماكان يحتمل التوثيق (( الكيل)) فلا زكاة فيه حتي يبلغ خمسة أوسق، وماكان لايحتمل التوثيق – مثل القطن والزعفران وسائر الخضروات – فالزكاة في قليله وكثيره.
وهو نوع من التوثيق بين عموم الحديث ((فيما سقت السماء العشر))، وخصوص حديث ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
وحكي صاحب ((البحر)) عن الباقر والناصر مذهبا آخر : أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب، والبر والشعير، إذ هي المعتادة، فانصرف إليها[49].
وقال الشوكاني : وهو قصر للعام علي بعض مايتناوله بلا دليل.
وإذا كنا رجحنا قول أبي حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض‘ فإننا نخالفه  في عدم اعتبار النصاب، وإيجابه العشر في القليل والكثيرمن الزرع والثمر، فإنا هذا مخالف للحديث الصحيح الذي نفي وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ومخالف لنظرية الشريعة بصفة عامة إيجاب الزكاة علي الأغنياء وحدهم، والنصاب هو الحد الأدني للغني، ولذلك اعتبر النصاب في سائر الأموال الزكوية.
ولايجوز معارضة حديث ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) بحديث ((فيما سقت السماء العشر)) بدعوي أن هذا عام، وقد عارضه ذلك الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارض قدم الأحوط وهو الوجوب.
نعم، لايقال ذلك، بل يقال ما قاله ابن القيم في هذا الموضع:
(( يجب العمل بكلا الحديثين، ولايجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما – بحمد الله تعالي- بوجه من الوجوه. فإن قوله : (( فيما سقت السماء العشر)) إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر، وما يجب فيه نصفه،فذكر نوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب. وأما مقدار النصاب فسكت عنه  في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الآخر. فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لايحتمل غير ما أول عليه البتة. إلي المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوص[50].
نصاب الحبوب والثمار
جائت الأحاديث الصحيحة بتقدير النصاب في الحبوب والثمار بخمسة أوسق، وأجمع العلماء أن الوسق ستون صاعا، فالأوسق الخمسة ثلاثمائة صاع، وقد روي في ذلك حديث مرفوع (( الوسق ستون صاعا)) ولكن الحديث ضعيف[51]، والاعتماد في هذا التقدير علي الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره.
مقدار الصاع
إن معرفة الصاع أمر لازم لمعرفة نصاب الزرع والثمر لأنه مقدر بالأوسق، والوسق مقدر بالصاع، كما ان زكاة الفطر الواجبة في كل عام مقدرةة بالصاع[52] أيضا، فما هذا الصاع ؟ وما مقداره؟
الصاع – كما في لسان العرب- مكيال لأهل المدينة يأخذأربعة أمداد. وفي الحديث أنه صلي الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد[53]، وصاع النبي صلي الله عليه وسلم أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم.
والمد أيضا مكيال، وقدروه بملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما، ةبه سمي مدا، قال صاحب القاموس : وقد جربت ذلك فوجدته صحيحا.
وقد أرشد النبي صلي الله عليه وسلم الأمة أن ترجع في مكاييلها إلي ماتعارف عليه أهل المدينة، وفي موازينها – كالدرهم والمثقال- إلي ما تعارف عليه أهل مكة، وفي هذا روي ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : (( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة[54])).
وحكمة هذا التفريق أن أهل المدينة أهل زروع وثمار، فحاجتهم إلي المكاييل أكثر، وهي عندهم أدق وأضبط، أما أهل مكة فهم أهل التجارة، فتكون حاجتهم إلي الموازين – كالدينار والدرهم- أكثر، وبالتالي تكون عندهم أدق وأضبط.
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
وإذا كان النبي صلي الله عليه وسلم قد جعل مكيال أهل المدينة هو المقياس الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، فكان المتوقع أن يتفق المسلمون علي مقدار الصاع وهو مكيال مدني، ولكنهم اختلفوا في تقديره
فأهل العراق – أبو حنيفة ومن وافقه- يقدرونه بثمانية أرطال (بالرطل البغدادي)
وأهل الحجاز – مالك والشافعي وأحمد وغيرهم-  يقدرونه بخمسة أرطال وثلث رطل بغدادي.
دليل فقهاء العراق
وسند فقهاء العراق فيما قالوه : ان هذا قدر صاع عمر رضي الله عنه فقد ثبت عنه أنه ثمانسة أرطل[55]، وأيضا صح أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، وجاء في حديث آخر أنه كان يغتسل بثمانية أرطال[56]، وفي غيره أنه كان يتوضأ برطلين.
دليل فقهاء الحجاز
وحجة فقهاء الحجاز أن الخمسة الأرطال والثلث هي قدر صاع المدينة الذي توارثه أهلها خلفا عن سلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم والمكيال مكيالهم. كما جاء في الحديث.
وقال الحسين – راوي هذا الخبر- : فحججت من عامي ذلك، فلقيت مالك بن أنس فسألته عن الصاع فقال: صاعنا هذا صاع رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت : كم رطلا هو؟ قال : المكيال لايرطل (يعني لايقدر بالوزن) وهو هذا[57].
وبعد الإمام مالك قال الإمام أحمد في القرن الثالث : الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وقال حنبل : قال أحمد : أخذت صاع من أبي النضر، وقال أبو النضر : أخذتها عن أبي ذئيب. وقال: هذا صاع النبي صلي الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة، وقال أبو عبيد الله –يعني ابن حنبل- فأخذنا العدس فعيرناه به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لايتجافي عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطل وثلث، وقال أحمد : هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي صلي الله عليه وسلم[58].
النتيجة
وإذا فالقول الصحيح الذي تعضده البراهين كلها هو قول أهل الحجاز، ومن وافقهم أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
ثم إن هذا التحديد للصاع هو الذي يتفق مع كل النسب الذي حددت للوحدات الأخري، وتبدو هذه النسب به معقولة، مجارية لطبائع الأشياء، بخلاف ما إذا فرض التحديد الآخر، فيلحظ حينئذ تفارق كبير، وتجاوزلدائرة العقول.
وعلي أية حال فإن المد قدعرف أيضا بأنه (( ملء كفي الإنسان المعتدل))، والصاع (( بأنه أربع جفنات)). فالذي يتصور ألا تتجاوز الكمية الأولي رطلا وثلثا، والثانية مثل ذلك  أربع مرات[59].
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية
مادام قد ثبت لنا كل من الصاع والمد بالأرطال البغدادية، فمن الممكن أن نعرف مقدارها بأي مقياس آخر: بالأرطال المصرية مثلا، أو بالدراهيم، أو الجرامات، أو اللترات، إذ أن النسب بين هذه الأمور ثابتة.
وإذا عرفنا مقدار الصاع عرفنا بالتالي مقدار الوسق، الذي جعل الشارع خمسة منه نصاب الحب والثمر.
والنصاب –كما قال ابن القدامة- معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلي الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنها المتوسط، وقد نص أحمد علي أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة[60].
وقال بعض أهل العلم : أجمع أهل الحديث علي أن مد النبي صلي الله عليه وسلم رطل وثلث قمحا من أواسط القمح. وهذا يدل علي أنهم قدروا الصاع بالثقيل، وأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه. ومن هنا سيكونأساس تقديرنا هو وزن القمح الوسط.
ومن حيث أن نسبة الرطل البغدادي إلي الرطل المصري هي كنسبة 9 إلي 10، كما حقق علي مبارك[61]، فإن الصاع بالأرطال المصرية = 5 1/3  x 10/ 9 = 4,8
أرطال مصرية (قمحا)، وهذا الرقم يساوي بالجرمات 2176 ((حسب الوزن بالقمح))
وهذا المقدار يساوي بالماء 2،75 لترا.
وإذا كان الإردب المصري الحالي= 128 لترا (بالماء) وهو مكون من 96 قمحا.
فبعملية حسابية نجد أن الصاع = 3/ 1 1 قدحا. أي 6/1 كيلة مصرية.
فالكيلة المصرية الحالية = 6 آصع، والاردب = 72 صاعا.
ويكون الوسق –وهو 60 صاعا- يساوي 6/ 60 = 10 كيلات مصرية.
فالأوسق الخمسة – وهي النصاب الشرعي = 5x  10 = 50 كيلة مصرية أي أربعة أرادب وويبة.
وهذه النتيجة توافق ما انتهي إليه الشيخ علي الأجهوري من علماء المالكية – في منتصف القرن الحادي عشر الهجري- من ضبط النصاب بالكيل المصري فوجده كذلك. فقد ذكر أنه كرر النصاب عام 1042 ه سنة اثنين وأربعين وألف، بكيل المصر فوجده أربعة أرادب وويبة، وذلك لأن المد ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين. قال : وقد وجدت القدح المصري يأخذ ملئهما ثلاث مرات كما حررت ذلك بأيدي جماعة. ومن المعلوم أن النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب بالقدح المصري 400 أربعمائة قدح،وهي أربعة أرادب وويبة[62].
وأما بالوزن فيساوي النصاب بالأرطال المصرية 300 x  8,3 =1440 رطلا من القمح.
وبالكيلوجرامات يوازي 300 x 176, 2 = 8, 652كيلوجرام قمح، وبالتقريب =653 ك.ج.
نصاب غير المكيلات
ماذكرناه من النصاب ((الأوسق الخمسة))إنما هو في المكيلات من الحاصلات الزراعية، أما مايقدر بالكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفوا في تقدير نصابه.
قال أبو يوسف: يعتبر فيه القيمة، وذلك أن تبلغ قيمة الخارج من قطن وغيره قيمة خمسة أوسق من أدني ما يكال من الحبوب، كالشعير مثلا، وإنما قال ذلك لأن الأصل اعتبار الوثق حيث ورد به النص، غير أنه إن أمكن اعتبار صورة ومعني اعتبر، وإن لم يمكن يجب اعتبارهه معني، وهو قيمة الموسوق[63]. واعتبار الأدني لحظ الفقراء.
وعلي هذا تجب زكاة القطن إذا كان ثمن الخارج منه = ثمن خمسين كيلة من الشعير، باعتباره أرخصالحبوب الآن علي مانعلم، وخاصة في مصر.
وقال محمد : المعتبر إنما هو خمسة أمثال أعلي ما يقدر به ذلك الشيء، لأن التقدير بالةسق في المكيلات لم يكن إلا لأن الوسق أعلي مايقدر به في بابه.
وعلي هذا إذا كان القطن يقدر بالقناطير في عصرنا، فنصابه خمسة قناطير، وهكذا. ولكن يؤخذ علي هذا التقدير أن النصاب به لاينضبط، لإختلاف الأقطار بل البلدان في القطر الواحد في اعتبار أعلي مايقدر به نوع من الحاصلات مما يؤدي إلي الإضطراب والاختلاف الشديد.
وذهب بعضهم إلي تقويم نصاب غير المكيل بمائتي درهم – أي بصاب النقود- كمال التجارة، إذ هو مزكي لانصاب له في نفسه فاعتبر بغيره[64].
وقال داود :مالا يكال تجب الزكاة في قليله وكثيره[65].
وعند أحمد : أن مالايكال يقدر بالوزن، ولهذا قدر نصاب الزعفران والقطن وشبههمابألف وستمائة رطل بالعراقي، لأنه ليس بمكيل، فيقوم وزنه مقام كيله، لأن النصاب الذي جاء به الشرع قد عرف مقداره بالوزن، كما عرف بالكيل، فالأولي فيما لايكال أن يقدر بالوزن، وهو 653 كيلوجرام كما بيناه.
قال ابن قدامة – معقبا علي الأقوال الأخري- : ولا أعلم لهذه الأقوال دليلا ولا أصلا يعتمد عليه، ويردها قول النبي صلي الله عليه وسلم (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)).
وإيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة.
واعتباره بغير مخالف لجميع ما يجب عشره، واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لانظير له أصلا، وقياسه علي العروض لايصح لأن العروض لاتجب الزكاة في عينها وإنما تجب في قيمتها، ويؤدي من القيمة التي اعتيرت بها.
ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه، فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب، ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العشر أو نصفه، فأشبه سائر مايجب فيه ذلك .
ولأنه لانص فيما ذكروه ولا إجماع، ولاهو في معناهما، فوجب ألا يقال به لعدم دليله.
الرأي الذي نختاره
والرأي الذي أختاره هو اعتبار القيمة فيما  لايوثق ولايكال.لأنه مال زكوي لم ينص الشرع علي نصابه فاعتبر بغيره. وإذا كان لابد من اعتبار النصاب بغيره، فليعتبر بقيمة مايوسق للنص عليه، كوا ذهب أبو يوسف. ولكني أخالف الإمام أبا يوسف في اعتبار القيمة بأدني مايوسق كالشعير والأذرة ونحوها، فإنه لايخلو من إجحاف بأرباب الأموال[66].ولهذا أري أن يقدر بأوسط ما يوسق من المكيلات المعروفة، لابالأدني ولابالأعلي، رعاية للطرفين : فقراء والممولين معا.
وأوسط  ما يوسق يختلف بالاختلاف الأقطار والأزمنة والأحوال الاقتصادية ولذا يجب أن يترك تحديده إلي أهل الرأي في كل بلد. فقد يكون في بلد هوالقمح، ويكون في الآخر هو الأرز مثلا.وعلي هذا يمكن تقدير النصاب في الزعفران والنرجس وغيرهما من الحاصلات الغالية الثمن التي لاتنتج الأرض منها عادة مثل ما تنتج من الأذرة والشعير –بقيمة653 ك ج من غلة متوسطة في بلادنا كالقمح أو الأرز.
ومثل ذلك القطن وقصب السكر ونحوهما.
متي يعتبر النصاب
والنصاب إنما يعتبر بعد الجفاف في الثمار، أي بعد أن يصير الرطب تمرا، والعنب زبيبا. وبعد التصفية والتنقية من القشر في الزروع.
قال الغزالي في الوجيز:  ثم هذه الأوسق تعتبر زبيبا أو تمرا، وفي الحبوب منقي عن القشر إلا فيما يطحن مع قشره كالذرة، وما لايتتمر يوسق رطبا[67]. وماكان يدخر في قشره كالأرز، فلا يكلف أهله إزالة قشره عنه لما في ذلكمن الضرر عليهم.
أما النصاب فقدره بعض الفقهاء بضعف المنقي عن القشر، ليكون الصافي منه نصابا، والأولي أن يرجع في ذلك إلي تقدير الخبراء في كل نوع من الحبوب، وكل صنف منها علي حدة، بحيث يعتبر أن يكون الصافي منها نصابا.
مقدار الواجب وتفاوته
العشر ونصف العشر
روي البخاري عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم : (( فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر[68])). والعثري – كما قال الأزهري وغيره- مخصوص بما سقي من ماء السيل، فيجعل عاثورا، وهو شبه ساقية تحفر ويجري الماء إلي أصوله. وسمي كذلك لأنه يتعثر به المار الذي لايشعر به، والنضح : السقي بالسانية، وهو البعير الذي يستقي به الماء من البئر، ويقال له : الناضح والجمع : سوان ونواضح.
وروي مسلم عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشور[69])). والغيم: المطر، والعشور: جمع عشر.
وروي يحي بن آدم في الخراج عن أنس قال: فرض رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالدوالي والسواني والغرب والناضح نصف العشر[70]. والغرب : الدلو الكبير.
وروي ابن ماجه عن معاذ : بعثني رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي اليمن فأمرني أن آخذ مما سقي السماء وما سقي بعلا العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر[71].
قل أبو عبيد : البعل ما شرب بعروقه من غير سقي (ككثير من الكروم والبساطين في فلسطين). وهكذا كل ما سقي بغير آلة وكلفة سواء كان من المطر، أو من ماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة، أو يشرب بعروقه كله فيه العشر[72].
قال في المغني : وفي الجملة كل ماسقي بكلفة ومؤنة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعور أو غير ذلك ففيه نصف العشر، لما روينا من الخبر، ولأن للكلفة تأثيرا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل العلوفة، فبأن تؤثر في تخفيفها أولي، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب[73])).
ويدخل في الكلفة أن يشتري الماء لأرضه أو بستانه كما قال النووي وغيره[74].
ما سقي بعض العام بكلفة وبعضه بغير كلفة:
-       فإن سقي الزرع نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أربع العشر، قال ابن القدامة: ولا نعلم فيه مخالفا، لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لوجب مقتضاه، فإن وجد في نصفها أوجب نصفه[75].
-       وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما، فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر، وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمعتمد عند الحنابلة[76].
-       وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطا، لأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط بوجود الكلفة، فما لم يتحقق المسقط يبقي علي الأصل، ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشك فيه.
هل يعتبر الجهد في غير السقي:
بقي النظر فيما إذا ثقلت المؤنة بسبب آخر غير سقيه بالآلات ونحوها، كأن يحتاج إلي حفر الترع والمصارف والقنوات ونحو ذلك.
والذي أفاده صاحب المغني في هذا المقام : أن حفر الأنهار والقنوات لايؤثر في نقصان الزكاة، وعلل ذلك :بأنه من جملة إحياء الأرض ولايتكرر كل عام.
ومل ذلك أفاده الرافعي في الشرح الكبير، وعلله بأنه مؤنة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة،والأنهار تشق لإحياء الأرض، فإذا تهيأت وصل الماء إلي الزرع بطبعه مرة أخري، فيكون فيه العشر، بخلاف السقي بالنواضح ونحوها[77].
وفصل الإمام الخطابي فقال : وأما الزرع الذي يسقي بالكني (القنوات) فالقياس علي هذا أن ينظر، فإن كان لامؤنة فيها أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات، فسبيلها سبيل النهر والسيح في وجوب العشر فيها، وإن كان تكثر مؤنتها بأن لاتزال تتداعي وتنهار، ويكثر نضوب مائها، فيحتاج إلي استحداث حفر، فسبيلها سبيل ماء الآبار التي ينزح منها بالسواني والله أعلم[78].
وتبعه في هذا التفضيل بعض الشافعية،كما ذكر الرافعي في الشرح الكبير.




[1] سورة البقرة الآية 267
[2] أحكام القرآن للجصاص جـ 1 ص 543
[3] الجنات: البساتين، ومعروشات : ما عرش الناس من الكروم، وغير معروشات : غير مرفوعات، مبنيات : لاينبته الناس ولايرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه (الطبري جـ12 ص 156) ط. المعارف.
[4] سورة الأنعام الآية 141
[5] تفسير الطبري جـ 12 ص 158-161
[6] القرطبي جـ 7 ص 99
[7] بدائع الصنائع جـ 2 ص 53
[8] قال في المنتقي : رواه الجماعة إلامسلما ، ولكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجة : ((وكان بعلا)) بدل (( عثريا)) (نيل الأوطار جـ 4 ص 139، 140 ط العثمانية)
[9] رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال : الأنهاروالعيون (المصدر نفسه).
[10] بدائع الصنائع جـ 2 ص 54
[11] المحلي جـ 5 ص 209 وما بعدها
[12] المغني جـ 2 ص 691
[13][13] قال الشوكاني : في إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهومتروك (نيل الأوطار جـ 4 ص 143)
[14] قال الحافظ : رواه الطبراني والحاكم (بلوغ المرام 122)
[15] الفرسك : بكسر الفاء والسين- الخوخ، أو ضرب منه أحمر
[16] الموطأ جـ 1 ص 276 ط الحلبي – باب مالا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول.
[17] نقل هذه الأقوال القرطبي في تفسيره جـ 7 ص 103.
[18] شرح الخرشي علي خليل، مع حاشية العدوي جـ 2 ص 168
[19] سورة الأنعام الآية 141
[20] انظر تفسير القرطبي جـ 7 ص 103.
[21] الموطأ جـ 1 ص 272، وقال مالك: إنما يؤخذ من الزيتون العشر بعد أن يعصر، ويبلغ زيتونه خمسة أوسق نفسه.
[22] تفسير القرطبي جـ 7 ص 103.
[23] المهذب مع المجموع جـ 5 ص 493
[24] شرح الرسالة لزروق جـ 1 ص 329
[25] المغني جـ 2 ص 690-692.
[26] جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه، كما في المنتقي، وقال الشوكاني : صححه الحاكم علي شرطهما، وفي إسناد عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه (نيل الأوطار جـ 4 ص 152)
[27] انظر نصب الراية جـ 2 ص 384 الحديث 38
[28] المغني جـ 2 ص 692
[29] الهداية – مع الفتح – جـ 2  ص 2-5 وذكر في الفتح ص 2 : انه لاشيء في الأدوية، ولا فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران .. ولكن ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يصبح ثروة تطلب وتقصد، فقد تزرع بعض النباتات للأدوية، وقد تستغل بعض لأشجار للصمغ. فيجب أن تدخل حينئذ في العموم.
[30] المحلي جـ 5 ص 212، 213
[31] وهو ما يبقي سنة بلا علاج غالبا، والعلاج : الحاجة إلي التقليب أوالتعليق ا. ه. ملخصا من فتح القدير جـ 2  ص 2
[32] قال الفخر الرازي فيتفسير الآية (( جـ 7 ص 65)) ظاهر الآية يدل علي وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض علي ما هو قول أبي حنيفة، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدا، إلا أن مخالفيه خصصوا عموم هذه الآية بقوله صلي الله عليه وسلم (( ليس في الخضروات صدقة )) ا ه. أقول : ولكن الحديث – كما سيأتي – ليس من الصحة بحيث يخصص عموم الآية، فبقي استدلال أبي حنيفة ظاهرا جدا كما قال.
[33] بدائع الصنائع جـ 2 ص 59
[34] لا أكاد أجد فرقا في الواقع بين قول أبي حنيفة وقول من ذكرنا، لأن استثناء أبي حنيفة للحطب والقصب والحشيش لا يخرجه عن القول بعموم الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، لأن المقصود بما يخرج منها مايزرع ويستنبت فيها، وإن كان ثمة فرق فليس له أثر يذكر.
[35] انظر : الرعاة علي الشكاة جـ 3 ص 39.
[36] انظر : المرقاة جـ 4 ص 153.
[37] فقه الزكاة جـ1 ص 358.
[38] انظر تعليق الحافظ في التلخيص ص 179.
[39] كتاب الزكاة، باب ماجاء في زكاة الخضروات وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي ص 132-133.
[40] الخراج ليحي بن آدم ص 145 ط السلفية.
[41] الأموال ص 504.
[42] الخراج ليحي بن آدم ص 152.
[43] الرسالة وشرحها لابن ناجي جـ 1 ص 320-321.
[44] المغني جـ 2 ص 695.
[45] قال في المنتقي : رواه الجماعة من حديث أبي سعيد.
[46] المغني  جـ 2 ص 695.
[47] الخراج ص 144.
[48] المحلي جـ 5 ص 112
[49] البحر الزخار جـ 2 ص 169.
[50] أعلام الموقعين عن رب العالمين جـ 3 ص 229،230
[51] رواه ابن ماجه عن جابر وإسناده ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق أبي البختري عن أبي سعيد مرفوعا، وهو منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من أبي سعيد كما قال البخاري، بل لم يدركه كما قال أبو الحاتم، ورواه الدار قطني عنن عائشة وهو ضعيف أيضا، وقد بين الحافظ ضعفه من كل طرقه في التلخيص ص 180 ط الهند.
[52] يحتاج إلي الصاع أيضا في كفارة اليمين وفي فدية النسك.
[53] رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن سفينة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال الترمذي : وفي الباب عن عائشة وجابر وأنس ( أنظر سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر جـ 1 ص 84)
[54] قال الحافظ في التلخيص ص 183 : رواه البزار واستغر به، وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدار قطني والنووي وأبو الفتح القشيري.
[55] بدائع الصنائع جـ 2 ص 73
[56] ذكر هذه الأحاديث في لأموال ص 514 – 516، وبين أبو عبيد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يتوضأ أحيانا بقدر الصاع، وأحيانا بثمانية أرطال، وأحيانا يتوضأ بالمد، وأخري برطلين، فالأحاديث تحكي عن أحوال متعددة لاعن حال واحدة.
[57] السنن الكبري للبيهقي جـ 4 ص 171
[58] المغني جـ 3 ص 59.
[59] الخراج في الدولة الإسلامية ص 302-303.
[60] المغني جـ 2 ص 701.
[61] الخراج في الدولة الإسلامية ص 304-305.
[62] حاشية العدول علي شرح الحرش جـ2 ص 168.
[63] بدائع الصنائع جـ 2 ص 61.
[64] البحر الزخار جـ 2 ص 170.
[65] المغني جـ 2 ص 697، 698.
[66] فقه الزكاة جـ 1 ص 365.
[67] الوجيز وشرحه للرافعي مع المجموع جـ 5 ص 568.
[68] قال الحافظ في التلخيص ص 180. رواه البخاري وبن حبان وأبو داود والنسائي وابن الجارود، رواه مسلم من حديث جابر، والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، والنسائي وابن ماجة من حديث معاذ.
[69] رواه أيضا أحمد والنسائي وأبو داود (( نيل الأوطار جـ 4 ص 139 ط العثمانية)).
[70] التلخيص ص 181.
[71] أخرجه ابن ماجة في باب صدقة الزروع والثمار عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ (( نصب الراية جـ 2 ص 385)).
[72] الروضة للنواوي جـ 2 ص 244.
[73] المغني جـ 2 ص 698، 699.
[74] المغني جـ 2 ص699.
[75] المغني جـ 2 ص 699.
[76] والقول الآخر : - يسقط الواجب علي عدد السقيات، لأنهما لو كان نصفين أخذ بالحصة،فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين.
     ورجح الأول بأن اعتبار مقدار السقي  وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية (( المغني جـ 2 ص 700)).
[77] الشرح الكبير مع المجموع جـ 5 ص 578.
[78] معالم السنن جـ 2 ص 207.

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة ثقف نفسك 2016 - 2017