المقاصد الشرعية من فرضية الزكاة
لقد فرض الإسلام الزكاة وجعلها
ركنا من أركانه، وأثبت لها منزلة عليا ومكانة عظمي، وما ذلك إلا لما يتحقق من
تطبيقها والأخذ بها من مقاصد شرعية عظيمة، تعود علي الغني والفقير ومجتمعهما
بالخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن تلك المقاصد:
أولا : تحقيق التعبد لله بامتثال
أمره والقيام بفرضه، فقد جائت النصوص المتواترة بالأمر بأداء هذه الفرضية العظيمة،
كما قال تعالي في أكثر من أية : (( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واركعوا مع
الراكين))[2].
وبين أن ذلك من صفة المومنين الطائعين، كما قال تعالي : ((إنما يعمر مساجد الله من
آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وءاتي الزكوة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن
يكونوا من المهتدين))[3].
فالمؤمن يتعبد الله بامتثال أمره
بإخراج الزكاة بالقدر المطلوب شرعا، وصرفها في مصارفها الشرعية.
فليس ذلك ضريبة مالية بل هي طاعة
لله وقربة، يرجو بها العبد الأرج العظيم والثواب الجزيل، كما قال تعالي : (( إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا
خوف عليهو ولاهم يحزنون))[4].
وقال تعالى : (( لكن الراسخون في
العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكوة
والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما))[5].
ثانيا : شكر نعمة الله بأداء زكاة
المال المنعم به علي المسلم، قال تعالى : (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم،
وإن كفرتم إن عذابي لشديد))[6]. فشكر
النعمة فرض علي المسلم، وبه تتحقق دوام النعم وزيادتها، قال الإمام السبكي رحمه
الله : (( ومن معاني الزكاة شكر نعمة الله تعالى، وهذا أيضا عام في جميع التكاليف
البدنية والمالية، لأن الله تعالى أنعم علي العباد بالأبدان والأموال، ويجب عليهم
شكر تلك النعم، شكر نعمة البدن، وشكر نعمة المال، لكن قد نعلم أن ذلك شكر بدني،
وقد نعلم أن شكر مالي، قد نتردد فيه، ومنه الزكاة[7]،
فأداء الزكاة اعتراف بفضل الله ونعمته، وشكرها، وصرف لتلك النعمة في مرضاة الله
وطاعته.
ثالثا : تطهير المزكي منالذنوب،
كما قال تعالى : (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم والله سميع عليم ))[8].
قال النووي رحمه الله : إن وجوب
أهل الزكاة معلل في الآية بالتطهير من الذنوب[9].
وقد جاء في السنة ما يؤكد هذا
المعني كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال :
(( الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار))[10].
وقد جمعت الآية المتقدمة كثيرا من
المقاصد كثيرا من المقاصد والحكم الشرعية في فرض الزكاة وذلك في كلمتين محكمتين في
قوله : ((تطهرهم وتزكيهم بها)) وفي ذلك يظهر إعجاز القرآن بدلالته علي المعاني
الكثيرة بألفاظ قليلة.
رابعا : تطهير المزكي من الشح
والبخل، وفي ذلك يقول الكساني رحمه الله[11]
: إن الزكاة تطهر نفس المؤدي إلي أنجاس الذنوب، وتزكي أخلاقه بخلق الجود والكرم،
وترك الشح والضن، إذ النفس مجبولة علي الضن بالمال، فتتعود السماحة، وترتاض لأداء
الأمانات وإيصال الحقوق إلي مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى : (( خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم[12])).
فالشح مرض بغيض مذموم، ابتلي به الإنسان،
فصار يسعي لحب التملك وحب الذات وحب البقاء والاستكثار، ونتج عن هذا الاستئثار
بالمنافع، وفي ذلك يقول تعالى مبنيا هذه الحقيقة : (( وكان الإنسان قتورا ))[13].
ويقول : (( وأحضرت الأنفس الشخ))[14].
ولذا فإن الشخ من أعظم أسباب التعلق بالدنيا والانصاف عن الآخرة، فهو سبب للتعاسة
التي دعا بها النبي صلي الله عليه وسلم علي عباد المال والدنيا بقوله : (( تعس عبد
الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط تعس وانتكس، وإذا
شيك فلا انتقش ..))[15] فحب
الدنيا والمال أصل من أصول الخطايا والذنوب، ومتي نجا المرء منهما ووقي الشح فقد
استحق الفلاح، كما قال تعالى : (( والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ))[16].
وأما الأشحاء البخلاء، فقد قال
تعالى فيهم : (( ولايحسبن الذين يبخلون بما ءاتهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو
شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما
تعملون خبير ))[17].
يقول الفخر الرازي : والاستغراق
في حب المال يذهل النفس عن حب الله، وعن التأهب للآخرة، فاقتضت حكمة الشرع تكليف
مالك المال بإخراج طائفة من يده، ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدة الميل إلي المال،
ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليه، وتنبيها لها علي أن سعادة الإنسان لاتحصل
بالاشتغال بطلب المال، إنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضات الله تعالى، فإيجاب
الزكاة علاج صالح متعين، لإزالة حب الدنيا علي القلب، فالله سبحانه أوجب الزكاة
لهذه الحكمة، وهو المراد من قوله : ((خذ من أموالهم صدقة تطهركم وتزكيهم بها وصل
عليهم ))[18]. أي
تزكيهم وتطهرهم عن الاستغراق في طلب الدنيا[19].
خامسا : تطهير مال الزكاة، وذلك :
بأداء ما تعلق به من حقوق المستحقين وما لزمه من واجبات، فتعلق حق الغير بالمال يجعله
ملوثا مشوبا لايطهر إلا بإخراج هذا الحق من المال، كما يشير إلي ذلك تعليل النبي
صلي الله عليه وسلم عدم مشروعية صرف الزكاة لآل البيت بأنها أوساخ الناس، فبالزكاة
يحصل التطهير وتزول تلك الأوساخ[20].
سادسا : تطهير قلب الفقير من
الحقد والحسد علي الغني، وذلك أن الفقير إذا رأي من حوله ينعمون بالمال الوفير وهو
يكابد ألم الفقر، فلربما تسبب ذلك في بث الحسد والحقد والعداوة والبغضاء في قلب
الفقير علي الغني، وبهذا تضعف العلاقة بين المسلم وأخيه بل ربما تقطعت أواصر
الأخوة وشبت نار الكرامة.
فالحسد والحقد والكراهية أدواء
فتاكة، تهدد المجتمع وتزلزل كيانها وقد سعي الإسلام لمعالجتما ببيان خطرها وتشريع
الزكاة، وهي أسلوب عملي فاعل لمعالجة تلك الأدواء، ولنشر المحبة والوثام بين أفراد
المجتمع المسلم[21].
سابعا : ومن مقاصد فرض الزكاة
مضاعفة حسنات معطيها ورفع درجاته، وهو مقصد شرعي مهم، وفيه يقول الله : (( مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابيل في كل سنبلة مائة
حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم))[22].
ثامنا
: مواساة الغني للفقير، فمن المقاصد المهمة التي شرعت لأجلها الزكاة، مواساة
الفقير وسد حاجته، قال الكاساني رحمه الله : (( إن أداء الزكاة من باب إعانة
الضعيف وإغاثة اللهيف، وإقدار العاجز وتقويته علي أداء ما افترض الله عز وجل عليه
من التوحيد والعبادات، والوسيلة إلي أداء المفروض مفروضة))[23].
قال
ابن القيم رحمه الله : (( اقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدرا يحتمل المواساة
ولايجحف بها، ويكفي المساكين ولايحتاجون معه إلي شيء،ففرض في أموال الأغنياء ما
يكفي الفقراء.
تاسعا
: نماء مال الزكاة، فمن مقاصد مشروعية الزكاة نماء المال بكثرته وحلول البركة فيه،
وقد تقدم أن من معاني الزكاة في اللغة : النماء، وقد جاء الشرع بما يؤيد هذا
المعني، ويثبته في فرضية الزكاة، وذلك أن من مقاصد مشروعيتها وآثارها نماء المال وكثرته
وحلول البركة فيه.
وقد
دل علي هذا الكتاب والسنة كما في قوله تعالي : ((يمحق الله الربوا ويربي الصدقات،
والله لايحب كل كفار أثيم ))[24]. أي
ينميها ويكثرها[25].
وقوله
تعالي : (( وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين))[26]،أي
فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب[27]،
كما قال صلي الله عليه وسلم : (( ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان
فيقول أحدهما : ألهم أعط منفقا خلقا،ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ))[28]
عاشرا : تحقيق
الضمان والتكافل الإجتماعي، فالزكاة جزء رئيس من حلقة التكافل الجتماعي، التي تقوم
علي توفير ضروريات الحياة، من مآكل، وملبس ومسكن، وسداد الديون، وإيصال المنقطعين
إلي بلادهم، وفك الرقاب، ونحو ذلك من أوجه التكافل التي قررها الإسلام كما في قوله
صلي الله عليه وسلم: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد
الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي))[30].
فالزكاة وسيلة كبري للتعاون والتراحم والتضامن بين الناس، وبها تندفع آفاة خطيرة
عن المجتمع، كالحسد والبغضاء مما يمكن المسلمين من التعاون علي البر والتقوي،
وتحقيق الغاية التي خلقوا لها وهي عبادة الله.
حادي عشر :
تنمية الاقتصاد الإسلامي : فللزكاة أثر إيجابي كبير في دفع عجلة الاقتصاد الإسلامي
وتنميته، وذلك أن نماء المال الفرد المزكي كما تقدم، يعود علي اقتصاد المجتمع
بالقوة والازدهار، كما أن فيها معنا لانحصار المال في يد الأغنياء، كما قال تعالى
: (( كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه
فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب[31])).
فوجود المال في أيدي أكثر المجتمع يؤدي لصرفه في شراء ضروريات الحياة، فيشكر
الإقبال علي السلع، فينشأ من هذا كثرة الإنتاج مما يساهم في كثرة العمالة والقضاء
علي البطالة، فيعود ذلك علي الاقتصاد الإسلامي بالفائدة[32].
ثاني عشر :
الدعوة إلي الله : فمن مقاصد الزكاة الأساسية الدعوة إلي الله ونشر الدين وسد حاجة
الفقراء والمحرومين، مما يهيئهم للإقبال علي دينهم وتحقيق طاعة ربهم، كما أن تأثير
الزكاة في الدعوة يتبين من خلال فرض أصناف أهل الزكاة، وذلك أن صرفها للمؤلفة
قلوبهم، وهم كفار يرجي إسلامهم، أو مسلمون يرتجي ثباتهم إنما ذلك لدعم الدعوة إلي
الله وتقويتها، ويتأكد ذلك الهدف المهمبصرف الزكاة في سبيل الله وهو مصرف يختص
بالجهاد عند جماهير العلماء، ووسعه بعضهم ليشمل الدعوة إلي الله باعتبارها نوعا من
الجهاد.
بيت المال زكاة
ومن هنا
نعلم أن الأساس في النظام الإسلامي أن يكون للزكاة ميزانية خاصة، وحصيلة قائمة
بذاتها، ينفق منها علي مصارفها المحدودة، وهي مصارف إنسانية وإسلامية خاصة، ولا
تضم إلي ميزانية الدولة العامة الكبيرة التي تتسع لمشروعات مختلفة، وتصرف في مصارف
شتي.
ولقد أشارت
آية مصارف الزكاة في سورة التوبة إلي هذا المبدأ حين قررت أن العاملين يأخذون
مرتباتهم منها، فمعني هذا أن يكون لها ميزانية مستقلة، وينفق علي إدارتها منها،
وذلك ما فهمه المسلمون من أقدم العصور، فقد جعلوا للزكاة بيت مال قائما بذاته، إذ
قسموا بيوت المال في الدولة الإسلامية إلي أربعة أقسام :
أولها : بيت
المال الخاص بالزكاة، وفيه تكون حصيلتها، ونظام العمل علي جمعها، وتوزيعها علي
مصارفها علي حسب شدة الحاجة.
الثاني :
بيت المال الخاص بحصيلة الجزية والخراج، والجزية مال يؤخذ من غير المسلمين الذين
يقيمون بين المسلمين علي أن يكون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وهو يأخذ منهم في
مقابل ما يؤخذ من المسلمين في الزكاة وغيرها من الصدقات الأخري، كصدقة الفطر
وكفارة الذنوب والتقصير في العبادات وفي مقابل حمايتهم والدفاع عنهم، دون أن
يكلفوا المشاركة في الخدمة العسكرية. والخراج ضريبة سنوية تفرض علي رقبة الأرض حسب
طاقتها، كالذي فرضه عمر علي سواد العراق وغيره.
الثالث :
بيت المال الخاص بالغنائم والركاز ( عند من يقول ] إنه ليس من الزكاة [ ولايصرف في مصارفها ).
الرابع :
بيت المال الخاص بالضوائع، وهي الأموال التي لايعرف لها مالك، ومنها الأموال التي
لا وارث لها[33].
والذي يعنينا هنا أن الزكاة في الإسلام ليست من باب الإحسان
التطوعي، ولا من باب الواجبات الشخصية الموكولة إلي ضمائر الأفراد وحدهم، إنما هي
فرسضة تشرف عليها الدولة وتنظم جبايتها وتوزيعها. فهي عبادة لها صفة الضريبة،
وضريبة فيها روح العبادة. وبهذا يقوم علي رعايتها وإيتائها حارسان، حارس خارجي :
هو رقابة الحكومة المسلمة، والمجتمع المسلم كله. وحارس داخلي : ينبع م نضمير
المسلم، وإيمانه بربه، ورجاء رحمته وخشية عذابه.
فإذا لم توجد الحكومة المسلمة التي تنهج نهج الخليفة الأول
في رعاية حق الفقراء، وانتزاعه بالقوة من براثن الأشرار. فقد بقي الفقير في كفالة
الضمير الإسلامي الذي يرجو الله ويخشاه. والذي يأبي عليه إيمانه أن يبيت امرؤ
شبعان وجاره إلي جنبه جائع.
سياسة الإسلام في توزيع مال الزكاة :
للإسلام في توزيع الزكاة سياسة حكيمة عادلة، تتفق وأحدث ما
ارتقي إليه تطور الأنظمة السياسة والمالية في عصرنا، الذي يخيل لبعض الناس في عصور
الجاهلية وفي عهوض الظلام في أوربا وغيرها، كيف كانت تجبي الضرائب والمكوس من
الفلاحيين والصناع والمحترفين والتجار وغيرهم ممن يكسب رزقه بكد اليمين وعرق
الجبين وسهر الليل وتعب النهار لتذهب هذه الأموال
الممزوجةبالعرق والدم والدمع إلي الإمبراطور أو الملك أو الأمير أو السلطان في
عاصمته الزاهية ينفقها في توطيد عرشه، ومظاهر أبهته، والإغداق علي من حوله من
الحواشي والأنصار والأتباع، فإن فضل فلتوسيع المدينة وتجميلها واسترضاء أهلها، فإن
فضل شيء فلأقرب المدن إلي جانبه العالي ! وهو في ذلك كله غافل عن تلك القري
الكادحة المتعبة، والديار العاملة النائبة التي منها جبيت هذه المكوس وأخذت هذه
الأموال.
فلما
جاء الإسلام وأمر المسلمين
بإيتاء الزكاة كما أمر ولي الأمر بأخذ هذه الضريبة تطهيرا وتزكية لأصحاب الأموال،
وإنقاذا للفئات المحتاجة من هوان الفقر، وذل الحاجة، حتي يسود التكافل والعدل
أبناء المجتمع المسلم قاطبة.
وكما جاء الإسلام بذلك، وجه الرسول صلي الله عليه وسلم
ولاته وسعاته إلي الأقاليم والبلدان لجمع الزكاة، وأمرهم أن يأخذوا الزكاة من
أغنياء البلد ثم يردوها علي فقرائه.
ولقد مر بنا حديث معاذ بن جبل المتفق عليه أن النبي صلي
الله عليه وسلم أرسله إلي اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها علي فقراءهم[34].
وكذلك نفذ
معاذ رضي الله عنه وصية النبي صلي الله عليه وسلم ففرق زكاة أهل اليمن في
المستحقين من أهل اليمن، بل فرق زكاة كل إقليم في المحتاجين منه خاصة، وكتب لهم
كتابا كان فيه : من انتقل من مخلاف عشيرته ( يعني الذي فيه أرضه وماله) فصدقته
وعشره في مخلاف عشيرته[35].
وعن أبي
جحيفة قال : قدم علينا مصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا
فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا (ناقة)[36].
وفي الصحيح
أن أعرابيا سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عدة أسئلة منها : (( بالله الذي
أرسلك، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها علي فقرائنا؟، قال : نعم
))[37].
وروى
البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال في وصيته : أوصي الخليفة من بعدي بكذا،
وأوصيه بكذا،وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يأخذ من حواشي
أموالهم فيرده في فقرائهم[38].
وكذالك كان
العمل في حياة عمر، أن يفرق المال حيث جمع، ويعود السعاة إلي المدينة لايحملون
شيئا غير أحلاسهم التي يتلفعون بها، وعصيهم التي يتوكأون عليها.
فعن سعيد بن
المسيب أن عمر بعث معاذا ساعيا علي بني كلاب أو علي بني سعد بن ذبيان، فقسم فيهم،
حتي لم يدع شيئا، حتي جاء بحلسه الذي خرج به علي رقبته[39].
وقال آخر من
أصحاب يعلي بن أمية وممن استعملهم عمر في الزكاة : كنا نخرج لنأخذ الصدقة، فما
نرجع إلا بسياطنا[40].
وعلي هذا
المنهج الذي اختطه الرسول وخلفاءه الراشدون سار أئمة العدل من الحكام، وأئمة الفتوي من فقهاء الصحابة والتابعين.
فعن عمران
بن حصين رضي الله عن أنه ولي عاملا علي الصدقة من قبل زياد ابن أبيه أو بعض
الأمراء في عهد بني أمية، فلما رجع قال له : أين المال ؟
قال : أو للمال أرسلتني؟! أخذنا من حيث كنا نأخذ علي عهد رسول الله صلي الله عليه
وسلم ووضعنا حيث كنا نضعه[41].
قال أبو
عبيد : فكل هذه الأحاديث تثبت أن كل قوم أولي بصدقتهم حتي يستغنوا عنها، ونري
استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنما جائت به السنة لحرمة الجوار وقرب دارهم من دار
الأغنياء[42].
فإن جهل
المصدق فحمل الصدقة من بلد إلي آخر سواه وبأهلها فقر إليها ردها الإمام إليهم، كما
فعل عمر بن عبد العزيز، وكما أفتي به سعيد ابن جبير.
إلا أن
إبراهيم النخعي والحسن البصري رخصا في الرجل يؤثر بها قرابته. قال أبو عبيد :وإنما
يجوز هذا للإنسان في خاصة ماله. فأما صدقات العوام (جمهور الأمة) التي تليها
الأئمة (أولو الأمر ) فلا.
ومثل قولهما
حديث أبي العالية : أنه كان يحمل زكاته إلي المدينة. قال أبو عبيد : ولا نراه خص
بها إلا أقاربه أو مواليه.
وإذا كان
الأصل المتفق عليه أن الزكاة تفرق في بلد المال الذي وجبت فيه، فإن من المتفق علي
كذلك أن أهل هذه البلد إذا استغنوا عن الزكاة كلها، أو بعضها لنعدام الأصناف
المستحقة، أو لقلة عددها ووفرة مال الزكاة، جاو نقلها إلي غيرهم أو إلي الإمام
ليتصرف فيها حسب الحاجة أو إلي أقرب البلاد إليهم.
ويعجبني ما
قاله الإمام مالك في هذا : لايجوز نقل الزكاة إلا أن يقع بأهل بلد حاجة، فنقلها
الإمام إليهم علي سبيل النظر والاجتهاد[43].
وأن سحنون
أنه قال : (( ولو الإمام أن في بعض البلاد حاجة سديدة جاز له نقل بعض الصدقة
المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها علي من ليس بمحتاج.والمسلم
أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه).
شروط لابد منه
لابد من
نظام الإسلام ومجتمع الإسلام
هذه الوسيلة
التي عالج الإسلام بها مشكلة الفقر، وضمن بها تحقيق الكفاية للفقراء، وسد حاجتهم
الأساسية، وصيانة كرامتهم الإنسانية. إنما تحقق هدفها، وتؤتي أكلها علي الوجه
المرضي في ظل المجتمع الإسلامي، تقوده عقيدة الإسلام، ويحكمه نظام الإسلام، ويستظل
بشريعته السمحة في حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافة.
أما أن يطلب
من الإسلام علاج الفقر ومطاردته، في مجتمع تسوده فكرة وفلسفة غير الإسلام، أو
يحكمه نظام أجنبي، مستورد من الشرق أو من الغرب أومن كليهما، ويراد ترقيعه بأجزاء
إسلامية، فليس هذا من شرعة العدل والإنصاف،ولا من المنطق السليم الذي يقره
العقلاء.
إن نظام
الإسلام للحياة والمجتمع نظام متماسك متكامل، لاتصلح تجزئته، ولا أخذ بعضه دون
بعض، فقد يكون الذي ترك مكملا أو شرطا للذي أخذ. ولذا أمر الله تعالى بالدخول فيه
كله، والعمل بشرائطه كافة فقال : (( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ))[44].
أي في شرائع الإسلام جملة، لا كما أراد بعض اليهود أن يدخلوا الإسلام مع الاحتفاظ
ببعض تقاليدهم القديمة.
وحذر الله
رسوله من أهل الكتاب أن يصرفوه عن بعض أحكام هذا الين فقال : (( وأن احكم بينهم
بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك))[45].
ولهذا كان
الأخذ بجزء من نظام الإسلام خروجا علي منطق الإسلام نفسه الذي يرفض التجزئة، ثم هو
أخذ لا يجدي في علاج أمراض المجتمع من الجذور.
الترقي لا
يجدي
إن العمل هو
السلاح الأول لمحاربة الفقر، وأن علي الإنسان أن يعمل ليغني نفسه بنفسه،ولكن هل
يحقق العمل فائدتهه المرجوة إذا كان المرء يعمل في غير ما يحسنه؟ أو يعمل فيما
يحسنه ولكنه لا يعطي أجره العادل؟ أو يعطي أجره ولكن لا تتاح له فرصة للترقي
بإظهار مواهبه وإبداعه؟ وقد يجتهد ويبدع ويحسن، ولكنه لا يلقي جزءا إحسانه من
الأجر والتشجيع، بل يؤخر عن مكانه انتقاما أو حسدا، ويقدم من لا يستحق محاباة أو
اتباعا للهوي، وإرضاء لبعض الرؤوسالكبيرة والنفوس الصغيرة.
وقد يأخذ
الأجر المناسب لجهده، ولكن طريقة الحياة التي يفرضها عليه المجتمع من حوله تجعله
ينفق الكثير م دخله فيما لا خير فيه، ولا نفع فيه له وللمجتمع. أعني في الكماليات
والمتع والرخيصة أو الشهوات العنفة : في الأزياء والمودات والسجاير، والسينمات
والملاهي والمراقص .. وغيرها من المكروهات أو المحرمات التي لا تبقي للحاجات
الحقيقية للفرد وأسرته إلا القليل.
وقد لا يكون
من هذا الصنف المنحرف، ولكنه يعيش في مجتمع سيطر فيه الاحتكار والربا والاستغلال،
أو تحكم فيه الاستبداد،وسري فيه الفساد فلا يشتري شيئا إلا من السوق السوداء بضعف
ثمنه، ولا يقضي عملا إلا بدفع رشوة، ولا يعطي قرضا يحتاج إليه إلا بالفوائد
الربوية.
وإذا حلت به
كارثة فينفسه، أو جائحة في ماله، فعجز عن العمل بعد القدرة، أو ذهب رأس ماله الذي
كان يكسب من وراءه دخلا حلالا .. فاضطر إلي الاستدانة وأصبح من الغارمين. فماذا
يكون موقفه وموقف المجتمع منه ؟ هل يأخذ بيده أم يدعه يغرق ويهلك وحده كما هو
الحاصل؟
كل هذا يؤكد
لنا أن العمل والسعي في مجتمع غير ملزم بالإسلام الكامل، وفي دولة غير ملتزمة
بالإسلام الكامل : لايكفي لضمان المعيشة الطيبة لصاحبه.
أما حين
يكون هناك مجتمع إسلامي تنظمه وتشرف عليه دولة إسلامية، فإن وضع العمل والعامل
يكون علي نحو آخر :
- إن الدولة
الإسلامية ستقوم بالإعداد الوظيفي والتدريب المهني اللازم لكل عام حتي ينتج أكبر
قدر مستطاع.
- تجتهد في أن تضع
كل عامل في مجال اختصاصه، وفيما يحسنه ويتفوق فيه من الأعمال سعيا إلي أفضل
النتائج.
- توفر له من
الآلات ما يساعده علي زيادة الإنتاج، واقتصاد الجهد والزمن.
- تكفل له من الأجر
ما يعادل جهده وكفايته، مهما يبلغ هذا الأجر، كما تتيح له أن يملك ثمراته، ويورثها
لذريته من بعده.
- إذا كان أجر
العامل أو ربحه أو ناتجه من العمل لايقوم بتمام كفايته له ولأسرته، فإن له في
خزانة الدولة حقا حتي يكتفي، بل حتي تتم كفايته.
- إذا حلت به كارثة
أو جائحة ألجأته إلي الاستدانة، فإن له حقا في مال الزكاة من سهم الغارمين وغيرها
من موارد الدولة.
- هذا إلي أن طريقة
الحياة الإسلامية الصحيحة ليس فيها خمر ولانساء، ولا سهرات حمراء، ولا تقر عبث
الأزياء، وانتشار الفساد والتحلل الذي يهلك الحرث والنسل، والذي يكلف الناس ضعف ما
تحتاج إليه الحياة المستقيمة الصالحة، أو أضعافها.
ومثال آخر
هب أن أحد
المجتمعات التي يعيش الإسلام فيها غريبا اليوم، أراد أن يأخذ نظاما كنظام الزكاة
وحده ويطبقه فماذا تكون النتيجة؟
في رأيي كما
يلي :
- جمع حصيلة ضئيلة
لا تكفي لمواجهة الفقر المنتشر والمشكلات الاجتماعية العديدة الناشئة من ورائه،
وضآلة الحصيلة نرجعها لعدة أسباب أهمها :
أولا : ضعف الوازع الديني والوعي الإسلامي لديكثير من
الناس، نتيجة للغزو الفكري الأجنبي الكافر، أضعف إلي ذلك تهرب الناس من أداء
الزكاة للحكومة، لكثرة ما يرهقهم من ضرائب أخري، ولعدم ثقتهم بالحكومات التي تجبي
الزكاة وهي لا تحكم بما أنزل الله، ولاعتقادهم أنها لن تصرف في الوجوه المشروعة
كأكثر الضرائب التي تعبث السياسة بمصارفها.
ثانيا : إن جمهور الشعب لا يملك الثروة ولا دخلا ذا قيمة،
بحيث يكون موردا للزكاة، وذلك أثر لطريقة الحياة التي يحياها المسلمون في هذا
العصر، وهي طريقة الكفار الأجانب الذين يتبعهم المسلمون للأسف شبرا بشبر، وذراعا
بذراع حتي لودخلوا جحر ضب لدخلوه[46]. وهي طريقة تقوم
علي الإسراف في الكماليات والمظاهر وألوان الترف واللهو الحرام التي تستورد موادها
من بلاد أجنبية تستنزف مواردنا وطاقاتنا فيما لايعود علي ديننا ولا دنيانا بنفع.
-
هذه الحصيلة الضئيلة سينفق جزء منها علي المكاتب والأدوات
والموظفين والعناية بالأبهة والسطحيات التي تبتلع الأموال قبل أن تصل إلي الفقراء.
-
عند التوزيع يحدث الاضطراب والفوضي، ويحرم كثير من
المستحقين، ويأخذ كثير ممنلايستحق الزكاة، وذلك لضعف التربية، وضمور الإيمان وسقم
الضمير سواء عند القائمين بأمر الزكاة أم عند الجمهور.
-
وأخيرا : تكون النتيجة عجز الزكاة –وحدها- أن تحقق الكفاية
للفقراء ما عدا فئة قليلة تصيب بعض الإعانات ... ويعقب ذلك بلبلة وشكوي وشخط عام
علي الزكاة وعدم جدواها، وهذا يؤدي إلي التشكيكفي نظام الإسلام كله.
وبهذين المثالين يتضح لنا أن ترقيع الأنظمة الأجنبية
الحاضرة، ببعض أجزاء أو ( قطع غيار) من تعاليم الإسلام وأحكامه، لاتحل المشكلة من
جذورها، ولا تعالج الداء من أساسه.
حكم استثمار أموال الزكاة
استثمار أموال الزكاة قد يحصل من المستحقين
للزكاة بعد قبضها، أو من المالك الذي وجبت عليه الزكاة، أومن الإمام أونائبه الذي
يشرف علي جميح أموال الزكاة، ولكل حالة حكمها :
المطلب الأول: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل
المستحقين
نص الفقهاء على جواز استثمار أموال الزكاة من
قبل المستحقين بعد قبضها؛ لأن الزكاة إذا وصلت أيديهم أصبحت مملوكة ملكا تاما لهم
وبالتالي يجوز لهم التصرف فيها كتصرف الملاك في أملاكهم، فلهم إنشاء المشروعات
الاستثمارية، وشراء أدوات الحرفة وغير ذلك .
جاء في كشاف القناع: من أخذ بسبب يستقر الأخذ به وهو الفقر، والمسكنة والعمالة والتالف صرفه فيما شاء ، كسائر أمواله ،لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بلام الملك .وإن أخذ بسبب لم يستقر الملك به صرفه فيما أخذه خاصة ،لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه وإنما يملكه مراعي فان صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، و إلا استرجع منه كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل[47]. وجاء في مغنى المحتاج: أضاف الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة الأخيرة بفي الظرفية للأشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى[48]. وجاء في الأشباه والنظائر لأبن نجيم: أسباب التملك المعاوضات المالية، والأمهار والخلع، والميراث والهبات والصدقات، والوصايا والوقف والغنيمة، والاستيلاء على المباح والأحياء .. الخ[49]. وبالرغم من أن الشافعية قالوا: أن الملك في الأصناف الأربعة الأخيرة مقيد بالصرف في تلك الجهات (وهي تحرير العبيد - وقضاء الدين - والجهاد في سبيل الله - ونفقات طريق ابن السبيل).
إلا أنهم أجازوا لهؤلاء المستحقين استثمار أموال الزكاة التي وصلت إلى أيديهم فقالوا: يجوز للعبد المكاتب أن يتجر فيما يأخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء. وهذا لا خلاف فيه (أي بين الشافعية).
جاء في كشاف القناع: من أخذ بسبب يستقر الأخذ به وهو الفقر، والمسكنة والعمالة والتالف صرفه فيما شاء ، كسائر أمواله ،لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بلام الملك .وإن أخذ بسبب لم يستقر الملك به صرفه فيما أخذه خاصة ،لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه وإنما يملكه مراعي فان صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، و إلا استرجع منه كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل[47]. وجاء في مغنى المحتاج: أضاف الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة الأخيرة بفي الظرفية للأشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى[48]. وجاء في الأشباه والنظائر لأبن نجيم: أسباب التملك المعاوضات المالية، والأمهار والخلع، والميراث والهبات والصدقات، والوصايا والوقف والغنيمة، والاستيلاء على المباح والأحياء .. الخ[49]. وبالرغم من أن الشافعية قالوا: أن الملك في الأصناف الأربعة الأخيرة مقيد بالصرف في تلك الجهات (وهي تحرير العبيد - وقضاء الدين - والجهاد في سبيل الله - ونفقات طريق ابن السبيل).
إلا أنهم أجازوا لهؤلاء المستحقين استثمار أموال الزكاة التي وصلت إلى أيديهم فقالوا: يجوز للعبد المكاتب أن يتجر فيما يأخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء. وهذا لا خلاف فيه (أي بين الشافعية).
وقال النووي: "قال أصحابنا يجوز للغارم أن يتجر فيما قبض من سهم الزكاة،
إذا لم يف بالدين ليبلغ قدر الدين بالتنمية[50].
ما أجاز الشافعية وأحمد في رواية إعطاء الفقراء والمساكين من أموال الزكاة
لاستثمارها، فيعطي من يحسن الكسب بحرفة ما آلاتها، بحيث يحصل له من ربحها ما يفي
بكفايته غالباً. فإن كان نجاراً أعطى ما يشتري به آلات النجارة. سواء كانت قيمتها
قليلة أو كثيرة بحيث تفي غلتها بكفايته.وإن كان تاجراً أعطى رأس مال يفي ربحه
بكفايته، يراعي في مقدار رأس المال نوع التجارة التي يحسنها، وقد مثلوا لذلك بما
يلي: البقلي يكفيه خمسة دراهم، والباقلاني يكفيه عشرة، والفكهاني يكفيه عشرون،
والعطار ألف والبزاز ألفان، والصيرفي خمسة آلاف، والجوهري عشرة آلاف. وإن كان لا
يحسن الكسب، ولا يقوى على العمل:كالمريض بمرض مزمن يعطي ما يشتري به عقاراً
يستغله، بحيث تفي غلته حاجته، فيملكه ويورث عنه، ويراعي في العقار عمر الفقير
الغالب وعدد عياله[51].
المطلب الثاني: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المالك:
إذا أخر المالك إخراج الزكاة عن وقت وجوبها بقصد استثمارها، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الإجابة على هذا السؤال تنبني على مسالة : هل تجب الزكاة على الفور أم على التراخي؟
أولاً: الزكاة تجب على الفور أم على التراخي:
اختلف الفقهاء في فورية إخراج الزكاة بعد وجوبها، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية- في المختار عندهم- والمالكية في أصل المذهب والشافعية والحنابلة إلى أن الزكاة تجب على الفور[52].
إذا أخر المالك إخراج الزكاة عن وقت وجوبها بقصد استثمارها، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الإجابة على هذا السؤال تنبني على مسالة : هل تجب الزكاة على الفور أم على التراخي؟
أولاً: الزكاة تجب على الفور أم على التراخي:
اختلف الفقهاء في فورية إخراج الزكاة بعد وجوبها، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية- في المختار عندهم- والمالكية في أصل المذهب والشافعية والحنابلة إلى أن الزكاة تجب على الفور[52].
واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله صلي الله عليه وسلم : ((ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته))[55].
فالحديث يدل على الفورية، لأن التراخي عن
الإخراج مما لا يبعد أن يكون سبباً لإتلاف المال وهلاكه[56].
- ما
روي عن عقبة بن الحارث قال : (( صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج،
فقلت أو قيل له: كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته))[57].
فالحدث يدل على فورية إخراج الصدقة. قال ابن
بطال: (الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع، والموت لا يؤمن،
والتسويف غير محمود) وزاده غيره: (وهو أخلص الذمة للحاجة، وأبعد من المطل المذموم،
وأرضى للرب تعالى، وأمحى للذنب)[58].
- ولأن
حاجة الفقراء ناجزة، فيجب أن يكون الوجوب على الفور[59].
وقال الكمال بن الهمام الأمر بالصرف إلى الفقير
معه قرينة الفور، وهي أنه لدفع حاجة وهي معجلة[60].
وذهب الحنفية في قول اختاره أبو بكر الجصاص وغيره إلى أن وجوب الزكاة عمري :
أي تجب على التراخي، ومعنى التراخي- عندهم - أنها تجب مطلقاً عن الوقت، ففي أي وقت
أدى يكون مؤدياً للواجب، وبتعيين ذلك الوقت للوجوب إذا لم يؤد إلى آخر عمره بحيث
يتضيق عليه الوجوب، بأن بقى من الوقت قدر يمكنه الأداء فيه، وغلب على ظنه أنه لو
لم يؤد فيه يموت فيموت، فعند ذلك يتضيق عليه الوجوب، حتى إنه لو لم يؤد فيه حتى
مات، يأثم. واستدلوا لذلك بما يلي :
-
الأمر بأداء الزكاة مطلق، والأمر مطلق يقتضي
التراخي، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره، كما لا يتعين لذلك مكان دون
مكان.
-
وقد استدل الجصاص لذلك بمن عليه الزكاة إذا هلك
نصابه بعد الحول والتمكن من الأداء، أنه لا يضمن، ولو كانت واجبة على الفور لضمن،
كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته، أنه يجب عليه القضاء[62].
وقد أجيب عن اقتضاء الأمر المطلق الفورية أو عدم
اقتضائها:
بأن المختار في أصول الفقه أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التراخي ، بل يقتضي مجرد طلب الفعل المأمور به، والفورية تستفاد من القرائن. وأجيب عن قول الجصاص: عدم الضمان بهلاك النصاب بعد وقت الوجوب: بأن هذه المسألة خلافية، ومبنية على مسألة الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها فيضمن عند من يقول بالفورية، ولا يضمن عند من يقول بالتراخي. فلا يصلح هذا الدليل للاستدلال به. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تجب على الفور، لأوامر الشرع التي قامت القرائن على وجوب المبادرة بها، وللأحاديث التي ذكرتها، ولقوله تعالى: ((واستبقوا الخيرات))[63]. وقوله تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين(([64].
بأن المختار في أصول الفقه أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التراخي ، بل يقتضي مجرد طلب الفعل المأمور به، والفورية تستفاد من القرائن. وأجيب عن قول الجصاص: عدم الضمان بهلاك النصاب بعد وقت الوجوب: بأن هذه المسألة خلافية، ومبنية على مسألة الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها فيضمن عند من يقول بالفورية، ولا يضمن عند من يقول بالتراخي. فلا يصلح هذا الدليل للاستدلال به. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تجب على الفور، لأوامر الشرع التي قامت القرائن على وجوب المبادرة بها، وللأحاديث التي ذكرتها، ولقوله تعالى: ((واستبقوا الخيرات))[63]. وقوله تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين(([64].
وبناء على القول الراجح فلا يجوز للمالك تأخير الزكاة لغير عذر: كدفعها إلى من
هو أحق من ذي قرابة أو ذي حاجة، أو لحاجته إليها. أما استثمارها فلا يعد عذراً من
أعذار التأخير، فلا يجوز له تأخيرها بقصد الاستثمار، لعدم تحقق الإخراج المأمور به
على الفور.
ثانياً: هل يشارك الفقير المالك بعد وجوب الزكاة إذا استثمر الأموال الزكوية في الأرباح؟
إذا أخرج المالك الزكاة،و استثمر المال الذي خالطته الزكاة، فهل يشارك المستحقون المالك في الربح والخاسرة؟ إجابة هذه المسالة مبنية على مسألة تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة. اختلف الفقهاء في تعليق الزكاة، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعي في الجديد وهو الصحيح في المذهب وأحمد في راية عليها المذهب إلى أن الزكاة تتعلق بالعين (المال) لا بالذمة[65].
ثانياً: هل يشارك الفقير المالك بعد وجوب الزكاة إذا استثمر الأموال الزكوية في الأرباح؟
إذا أخرج المالك الزكاة،و استثمر المال الذي خالطته الزكاة، فهل يشارك المستحقون المالك في الربح والخاسرة؟ إجابة هذه المسالة مبنية على مسألة تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة. اختلف الفقهاء في تعليق الزكاة، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعي في الجديد وهو الصحيح في المذهب وأحمد في راية عليها المذهب إلى أن الزكاة تتعلق بالعين (المال) لا بالذمة[65].
واستدلوا لذلك فيما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((في أربعين شاة))[66]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فما سقت السماء العشر))[67]. وغير ذلك من النصوص الوارد فيها حرف "في" وهي للظرفية. فالواجب جزء من النصاب.
وذهب الشافعية في القديم وأحمد في رواية اختارها الخرقي في مختصره إلى أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بالعين، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن واجبة فيه: كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لأمتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيها، وأسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط: كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني[68]. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تتعلق بالعين، لا بالذمة للنصوص الواردة في ذلك، ولقوله تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة ))[69]. وقوله تعالى: ((والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم))[70]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم))[71]. وأما جواز إخراجها من غير النصاب، فيجاب عنه بأنه أجازها رخصة، وتوسيعها على المالك، لكونها وجبت مجاناً على سبيل المواساة.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((في أربعين شاة))[66]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فما سقت السماء العشر))[67]. وغير ذلك من النصوص الوارد فيها حرف "في" وهي للظرفية. فالواجب جزء من النصاب.
وذهب الشافعية في القديم وأحمد في رواية اختارها الخرقي في مختصره إلى أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بالعين، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن واجبة فيه: كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لأمتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيها، وأسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط: كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني[68]. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تتعلق بالعين، لا بالذمة للنصوص الواردة في ذلك، ولقوله تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة ))[69]. وقوله تعالى: ((والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم))[70]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم))[71]. وأما جواز إخراجها من غير النصاب، فيجاب عنه بأنه أجازها رخصة، وتوسيعها على المالك، لكونها وجبت مجاناً على سبيل المواساة.
فبناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة، فإن
ملك المالك لا يزول عن شيء من المال، ويصح تصرفه فيه بالبيع والاستثمار وغير ذلك،
والربح في حال الاستثمار له، والخسارة عليه. وبناء على القول بأن الزكاة تتعلق
بالعين، فإن الفقهاء اختلفوا بمشاركة المستحقين للمالك في ماله، وهي مبنية على
الاختلاف في التكييف الفقهي لتعلق الزكاة بالمال بعد وجوب الزكاة فيه: هل هو تعلق
شركة، أو تعلق رهن، أو تعلق أرش جناية الرقيق برقبته؟
اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال :
القول الأول: ذهب المالكية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق شركة، فينتقل مقدار الزكاة إلى المستحقين بعد وجوبها، ويصيرون شركاء رب المال في قدر الزكاة، واستدلوا لذلك بظاهر قوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم))[72].
القول الأول: ذهب المالكية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق شركة، فينتقل مقدار الزكاة إلى المستحقين بعد وجوبها، ويصيرون شركاء رب المال في قدر الزكاة، واستدلوا لذلك بظاهر قوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم))[72].
القول الثاني: ذهب الحنفية والشافعية في قول
والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق أرش[73]. جناية العبد المملوك برقبته،
فلا يزول ملك رب المال عن شيء منه إلا بالدفع للمستحق، لأن الزكاة تسقط بتلف المال
قبل التمكن أو من غير تفريط، كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني…[74].
القول الثالث:ذهب الشافعية في قول ثالث
والحنابلة في قول ثالث إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق الدين بالرهن، وبمال
من حجر عليه لفلسه، فلا يصح تصرفه قبل وفائه أو إذن ربه…[75]. بناء على القول بأن الزكاة
تتعلق بالعين تعلق شركة قال بعض العلماء: إن المستحقين يشاركون رب المال في الربح
الحاصل من استثمار المال الذي خالطته الزكاة، فجاء في العروة الوثقى: "إذا
اتجر بمجموع النصاب قبل أداء الزكاة كان الربح للفقير بالنسبة والخسارة عليه"[76].
وجاء في كتاب الخمس: "فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن
ولها "للزكاة" الربح، وإن نويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في
تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح، ولا وضعية
عليها" ويعتمد هذا القول على قاعدة (تبعية النماء للملك)[77].
ولكن الشافعية الذين قالوا بتعلق الزكاة بالعين تعلق
شركة لم يقولوا بذلك ولم يرتبوا عليه تلك النتيجة، ومقتضى قولهم: إن المستحقين لا
يشاركون رب المال في الربح والخسارة، إذا استثمر المالك المال الذي خالطته الزكاة
لأن التمليك في الزكاة للمستحقين ليس تمليكاً حقيقياً قبل قبضهم لها، فقد جاء في
أحكام القرآن للألكيا الهراسي "وإنما لم يجعله تمليكاً حقيقياً من حيث جعله
لوصف لا لعين، وكل عين لموصوف فإنه لا يملكه إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع
استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات حتى لا يحرم صنف"[78].
وبناء على القولين: الثاني والثالث للذين جعلا تعلق
الزكاة بالعين تعلق استيثاق كما في الرهن وأرش جناية العبد، فلا يشارك المستحقون
رب المال في ربح ما استثمره من أموال خالطتها الزكاة، وقد صرح بذلك الحنابلة حيث
جاء في الأصناف: "والتصرف فيه ببيع غيره بلا إذن الساعي، وكل النماء له (أي
للمالك)[79].
والذي أراه أن المستحقين لا يشاركون صاحب المال
في الربح الذي يحصل له من استثمار أمواله بعد وجوب الزكاة وقبل الأداء، لأن قول
الحنفية ومن معهم من أن الزكاة تتعلق بالعين تعلق أرش جناية العبد برقبته أرجح
الأقوال في المسألة، فلا يزول ملك رب المال عن شيء من أمواله إلا بالدفع إلى
المستحقين، وأما ما ذهب إليه الشافعية ومن معهم من أن اللام في آية توزيع الصدقات
للتمليك، فيجاب عنه بأن هذا المبدأ ليس محل اتفاق كما بينت في بحث: مبدأ التمليك
ومدى اعتباره في صرف الزكاة"[80]. والتمليك بالنسبة لمن قالوا به
ليس على الحقيقة قبل قبض الزكاة- كما بينت سابقاً - فالفقير ليس بمالك للزكاة
حقيقة، ولكن له صلاحية أن تصرف إليه، ويستحق هذا القدر على صاحب المالك، وعلى معنى
أنه إذا أراد الأداء يجب عليه أن يصرفه إلى الفقير دفعاً لحاجته، ولا يقال لما وجب
الصرف إليه لفقره كان المال حقه، فيكون هو مستحقاً له حقيقة، لأنا نقول ما يجب
لفقره رزقاً له على الله تعالى، لأنه تعالى هو الضامن للرزق دون العبيد إلا أن
الله أمر بصرف هذا الواجب إليه[81].
وإذا عزل المالك الزكاة عن أمواله فلا يجوز له
استثمارها، إلا إذا منع من توصيلها للمستحقين مانع فلا بأس باستثمارها لحين
توزيعها بحيث يضمن الخسارة.
المطلب الثالث: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه:
إذا وصلت أموال الزكاة إلى يد الأمام أو نائبه فهل يجوز له استثمارها في مشاريع ذات ريع أم لا؟
أولاً: آراء العلماء المعاصرين في استثمار الأمام لأموال الزكاة:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار الأمام لأموال الزكاة على قولين:
القول الأول: يرى بعض العلماء عدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه، وممن ذهب إلى ذلك الدكتور وهبه الزحيلي، والدكتور عبد الله علوان، والدكتور محمد عطا السيد، والشيخ محمد تقي العثماني[82].
المطلب الثالث: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه:
إذا وصلت أموال الزكاة إلى يد الأمام أو نائبه فهل يجوز له استثمارها في مشاريع ذات ريع أم لا؟
أولاً: آراء العلماء المعاصرين في استثمار الأمام لأموال الزكاة:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار الأمام لأموال الزكاة على قولين:
القول الأول: يرى بعض العلماء عدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه، وممن ذهب إلى ذلك الدكتور وهبه الزحيلي، والدكتور عبد الله علوان، والدكتور محمد عطا السيد، والشيخ محمد تقي العثماني[82].
القول الثاني: يرى كثير من العلماء المعاصرين
جواز استثمار أموال الزكاة في مشاريع استثمارية سواء فاضت الزكاة أولا. وممن ذهب إلى
هذا القول الأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي والشيخ عبد الفتاح أبو
غدة، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد السلام العبادي، والدكتور محمد
صالح الفرفور ، والدكتور حسن عبد الله الأمين، والدكتور محمد فاروق النبهان
قال الأستاذ مصطفى الزرقا: "الاستثمار الذي هو تنمية المال.. أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة، فيصبح الواحد اثنين والاثنان ثلاثة…، على شرط أن تمارسها أيد أمينة، وأساليب وتحفظات مأمونة كل هذا جائز، سواء أكان عن طريق تجارة أم عن طريق الصناعة أم عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر[83]. ). وقال الدكتور يوسف القرضاوي: "بناء على هذا المذهب- أي مذهب إناء الفقير من الزكاة تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها واتسعت حصيلتها أن تنشأ مؤسسات تجارية أو نحو ذلك من المشروعات الإنتاجية الاستغلالية وتملكها للفقراء كلها أو بعضها، لتدر عليهم دخلا دورياً يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفة عليهم[84].
قال الأستاذ مصطفى الزرقا: "الاستثمار الذي هو تنمية المال.. أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة، فيصبح الواحد اثنين والاثنان ثلاثة…، على شرط أن تمارسها أيد أمينة، وأساليب وتحفظات مأمونة كل هذا جائز، سواء أكان عن طريق تجارة أم عن طريق الصناعة أم عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر[83]. ). وقال الدكتور يوسف القرضاوي: "بناء على هذا المذهب- أي مذهب إناء الفقير من الزكاة تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها واتسعت حصيلتها أن تنشأ مؤسسات تجارية أو نحو ذلك من المشروعات الإنتاجية الاستغلالية وتملكها للفقراء كلها أو بعضها، لتدر عليهم دخلا دورياً يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفة عليهم[84].
وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "يجوز استثمار هذه الأموال "أموال
الزكاة" بما يعود على المجاهدين الأفغان بالخير بهذه الطريقة المشروعة "المرابحة"
وأنتم وكلاء في القبض ، فيمكن أن تكونوا وكلاء في التصرف، وأنتم في مقام المودع
إذا أذن له في التصرف[85].
وقال الدكتور محمد فاروق النبهان: "اقترح أن تنشأ وزارة خاصة يطلق عليها
اسم وزارة الزكاة وتكون مهمتها جباية الأموال من الأغنياء، وتوزيعها على مستحقيها
من الفقراء.. إليهم دون غيرهم[86].
وقال الدكتور عبد العزيز الخياط عميد كلية
الشريعة بالجامعة الأردنية سابقاً: أرى ضرورة توظيف واستثمار بعض أموال الزكوات في
المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية لصالح جهات الاستحقاق[87].
وقال الدكتور محمد صالح الفرفور: "أرى جواز
استثمار أموال الزكاة استحساناً خلافا للقياس للضرورة أو الحاجة بإشراف ولي الأمر
أو من يفوضه كالقاضي[88].
وقد أفتى بجواز استثمار أموال الزكاة كثير من
العلماء ولجان الفتوى في العالم الإسلامي - كما هو مبين في ملاحق الفتاوى
والقرارات.
ثانياً: الأدلة:
يستند كل قول من القولين السابقين إلى حجج وأدلة، وفيما يلي أدلة كل فريق:
-
أدلة القائلين بعدم جواز الاستسمار
استدل القائلون بعدم جواز استثمار أموال الزكاة بما يلي:
-
استثمار أموال الزكاة في مشاريع صناعية أو
زراعية أو تجارية يؤدي إلى تأخير توصيل الزكاة إلى المستحقين، إذ أن إنفاقها في
تلك المشاريع يؤدي إلى انتظار الأرباح المترتبة عليها، وهذا مخالف لما عليه جمهور
العلماء من أن الزكاة تجب على الفور.[89]
-
إن استثمار أموال الزكاة يؤدي إلى عدم تملك
الأفراد لها تمليكاً فردياً، وهذا مخالف لما عليه جمهور الفقهاء من اشتراط التمليك
في أداء الزكاة، لأن الله تعالى أضاف الصدقات إلى المستحقين في آية الصدقات بلام
الملك[92]
أدلة القائلين بجواز الاستثمار:
استدل القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة بما يلي:
-
لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ والخلفاء
الراشدين كانوا يستثمرون أموال الصدقات من إبل وبقر وغنم ، فقد كان لتلك الحيوانات
أماكن خاصة للحفظ والرعي والدر والنسل، كما كان لها رعاة يرعونها ويشرفون عليها،
ويؤيد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أن أناساً من عرينة اجتووا المدينة[94]، فرخص لهم الرسول _صلى الله
عليه وسلم_ أن يأتوا إبل الصدقة فشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي
واستاقوا الذود فأرسل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فأتي بهم، فقطع أيديهم
وأرجلهم وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة"[95].
وعن مالك عن زيد بن أسلم أنه قال: شرب عمر بن الخطاب
لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه من أين هذا اللبن، فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه،
فإذا نعم من نعم الصدقة، وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها، فجعلته في سقاء فهو هذا،
فأدخل عمر بن الخطاب يده فاستقاء[96].
-
الاستئناس بقول من توسع في مصرف: "في سبيل
الله" وجعله شاملا لكل وجوه الخير: من بناء الحصون وعمارة المساجد، وبناء
المصانع، وغير ذلك مما فيه للمسلمين كما نقله الرازي في تفسيره عن تفسير القفال عن
بعض العلماء[97].
فإذا جاز صرف الزكاة في جميع وجوه الخير، جاز صرفها في إنشاء المصانع
والمشاريع ذات الريع التي تعود بالنفع على المستحقين.
-
الاستئناس بقول من أجاز للأمام- إذا اقتضت
الضرورة أو الحاجة- إنشاء المصانع الحربية من سهم " في سبيل الله" وأن
يجعل هذه المصانع كالوقوف على مصالح المسلمين. ويستند هذا الرأي إلى ما ذكره
النووي في المجموع عن فقهاء خراسان: "إن الأمام بالخيار إن شاء سلم الفرس
والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكاً له فيملكه وإن شاء استأجر ذلك له،
وإن شاء اشترى من سهم "في سبيل الله" أفراساً وآلات الحرب، وجعلها وقفاً
في سبيل الله، ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم،
وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته[98]. هذا بناء على قول من يرى عدم
التوسع في مصرف في "سبيل الله" وقصره على الجهاد في سبيل الله ، فإذا
جاز إنشاء المصانع الحربية ووقفها على مصالح الجيش الإسلامي من الزكاة جاز إنشاء
المؤسسات الاستثمارية من أموال الزكاة إذا دعت الضرورة أو الحاجة ووقفها على
المستحقين للزكاة.
-
الاستئناس بالأحاديث التي تحض على العمل
والإنتاج واستثمار ما عند الإنسان من مال وجهد ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك قال:
"أن رجلا من الأنصار أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال: أما في بيتك شيء؟
قال: بلى حلس[99]. نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب[100]. نشرب فيه الماء. قال: ائتني
بهما، فأخذهما رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بيده وقال من يشتري هذين؟ فقال رجل:
أنا آخذهما بدرهم، قال من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. فقال رجل: أنا آخذهما
بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما
طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالأخر قدوماً فائتني به، فشد رسول الله _صلى الله
عليه وسلم_ عوداً بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب
الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب خمسة عشر درهماً فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها
طعاماً فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "هذا خير لك من أن تجيء المسالة
نكتة في وجهك يوم القيامة، وإن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع[101]،
أو لذي غرم مفظع[102]،
أو لذي دم موجع[103].
فإذا جاز استثمار مال الفقير المشغول بحاجاته الأصلية
جاز للأمام استثمار أموال الزكاة قبل شغلها بحاجاتهم.
-
القياس على استثمار المستحقين للزكاة بعد قبضها
ودفعها إليهم بقصد الاستثمار- كما بينا سابقاً - فإذا جاز دفعها إليهم استثمارها
لتأمين كفايتهم وتحقيق إغنائهم جاز استثمارها وإنشاء مشروعات صناعية أو زراعية تدر
على المستحقين ريعاً دائماً ينفق في حاجة المستحقين، ويؤمن لهم أعمالا دائمة
تتناسب مع إمكاناتهم وقدراتهم. والاستئناس بالأحاديث التي تحض على الوقوف والصدقة
الجارية، ومن ذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا مات الإنسان انقطع عمله
إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو[104]. فالصدقة الجارية هي الدائمة
المتصلة كالوقوف المرصدة، فيدوم ثوابها للمتصدق مدة دوامها، ويعمل الناظر على
تنميتها واستثمارها والتصرف فيها بما يحقق مصلحة الموقوف عليهم، فإذا جاز للناظر
التصرف فيها وفق مصلحة المستحقين، جاز للأمام التصرف في أموال الزكاة واستثمارها.
-
القياس على جواز استثمار أموال الأيتام من قبل
الأوصياء بدليل قوله _صلى الله عليه وسلم_ "ابتغوا في أموال اليتامى لا
تأكلها الصدقة"[105]. فإذا جاز استثمار أموال
الأيتام وهي مملوكة حقيقة لهم جاز استثمار أموال الزكاة قبل دفعها إلى المستحقين
لتحقيق منافع لهم فهي ليست بأشد حرمة من أموال الأيتام.
-
العمل بالاستحسان في هذه المسألة خلافاً
للقياس، فهذه المسألة وإن كان الأصل فيها عدم الجواز إلا أن الحاجة إليها في هذا
العصر ماسة نتيجة لاختلاف البلاد والعباد واختلاف الدول وأنظمة العيش، وأنماط
الحياة[106]. ومن وجوه المصلحة في استثمار
أموال الزكاة تأمين موارد مالية ثابتة لسد حاجات المستحقين المتزايدة.
الرأي
المختار
بعد عرض آراء العلماء وأدلتهم ومناقشتها يتبين لي ما يلي:
-
الأصل في أموال الزكاة التي وصلت إلى يد
الأمام، أو من ينوب عنه من السعادة أو المؤسسات الزكوية تعجيل تقسيمها بين
المستحقين، ولا يجوز تأخيرها.
-
لكن إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى تأخير
تقسيمها فلا بأس، وتحفظ حينئذ بالطريقة التي يراها الأمام أو من ينوب عنه، بحيث
تؤدي تلك الطريقة إلى عدم ضياعها، وتحقيق المنافع للمستحقين: كحفظها في مصارف
إسلامية على شكل ودائع استثمارية لحين الطلب.
-
ويستثنى من الأصل السابق أيضاً جواز تأخيرها
للاستثمار، إذا دعت الضرورة أو الحاجة: كتأمين موارد مالية ثابتة للمستحقين وتوفير
فرص عمل للعاطلين عن العمل من المستحقين فيجوز استثمارها في مشاريع إنتاجية.
ضوابط استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه.
إذا قلنا بجواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه فلا بد من
مراعاة الضوابط التالية:
-
أن لا توجد وجوه صرف عاجلة لتلك الأموال: كسد
الحاجات الضرورية للمستحقين من الحاجة إلى الطعام أو الكساء أو السكن، فإن وجدت
تلك الحاجات العاجلة، فلا يجوز تأخير صرف الزكاة فيها بحجة الاستثمار، وإذا كانت
أموال الزكاة على شكل أصول ثابتة: كالمصانع والعقارات فيجب بيعها وصرف أثمانها في
تلك الوجوه.
-
أن يتحقق من استثمار أموال الزكاة مصلحة حقيقية
راجحة للمستحقين: كتأمين مورد دائم يحقق الحياة الكريمة لهم
-
أن تكون مجالات الاستثمار مشروعة: كالتجارة
والصناعة والزراعة، ولذا فلا يجوز استثمار أموال الزكاة في مجال من المجالات
المحرمة: كالربا والاتجار بالمحرمات وغير ذلك.
-
أن تتخذ كافة الإجراءات التي تضمن بقاء تلك
الأموال على أصل حكم الزكاة، بحيث لا يصرف ريعها إلا للمستحقين ولو احتيج إلى بيع
الأصول الثابتة في المستقبل ترد أثمانها إلى مصارف الزكاة.
-
أن يسبق قرار الاستثمار دراسات دقيقة من أهل
الخبرة تتعلق بالجدوى الاقتصادية للمشروع الاستثماري، فإذا غلب على الظن تحقق
الأرباح من ذلك المشروع باشر من في إنشائه.
-
أن يسند أمر الأشراف والإدارة إلى ذوي الكفاءة
والخبرة والأمانة.
-
أن يعتمد قرار الاستثمار ممن له ولاية عامة
كالإمام أو القاضي، أو أهل الحل والعقد.
مقدار ما يعطى القائم على استثمار أموال الزكاة:
اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى العامل، هل يعطى أجرة المثل، أو يعطى على سبيل
الكفاية؟ فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يعطي أجرة
المثل، ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك، لأنه يقوم بعمل كسائر العمال والحكام
وجباة الفيء. فالأصل احترام عمل العامل واستحقاقه أجرة مثله فقيراً كان أو غنيا[107].
وذهب الحنفية إلى أنه يعطي على سبيل الكفاية له ولمن يعول، لا على سبيل
الأجرة؛ لأن العامل فرغ نفسه لهذا العمل، فيحتاج إلى الكفاية[108].
والذي أميل إليه ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن العامل يأخذ أجرة مثله،
فيعطى على قدر سعيه وعمله ولا يبخس منه شيئاً، ولا يزاد عليه لأن عمل العامل هو
سبب الاستحقاق، فلابد أن يكون المستحق ملائماً للعمل الذي يقوم به.
مصارف
الزكاة
الزكاة تشريع مالي له أهداف اقتصادية وأخلاقية واجتماعية وعمرانية، تستهدف
مكافحة الفقر والشح والأنانية والجشع، وتعمل
علي توفير الخدمات الاجتماعية وتحرير العبيد وإصلاح الوطن الإسلامي ونشر دعوة إلي
الإسلام ... الخ،
وتدخل الزكاة كمورد رئيس من موارد خزينة الدولة الإسلامية وماليتها، لذلك حددت
الشريعة الإسلامية الجهات والمصارف التي تصرف فيها الزكاة، ليعم النفع العام
وتنتعش كل جوانب الحياة، وتعالج المشاكل التي يعانيها الفرد و المجتمع.
حددت الآية التي ذكرناها من سورة التوبة مصارف الزكاة فكانت ثمانية، المصرفان
الأول والثاني : هما الفقراء والمساكين. فهم أول من جعل الله له سهما في أموال
الزكاة، وهذا يدلنا علي أن الهدف الأول من الزكاة هو القضاء علي الفقر والعوز،
واهالة التراب علي الحاجة والمسكنة في المجتمع الإسلامي.
وذلك أن القرآن قد بدأ بالفقراء والمساكين، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، من
شأن بلغاء العرب أن يبدأووا بالأهم فالأهم. ولما كان علاج الفقر، وكفالة الفقراء
ورعايتهم، هو الهدف الأول، والمقصود الأهم من الزكاة اقتصر النبي صلي الله عليه
وسلم في بعض أحاديثه علي ذلك، فقال لمعاذ حين وجهه إلي اليمن : (اعلمهم أن عليهم
صدقة تؤخذ من أغنياءهم وترد علي فقراءهم).
-
الفقراء
والفقير هو من لايملك حاجة سنته، سواء من كان يملك النقود والسلع بصورة فعلية،
أو كان عاجزا عن توفير تلك الحاجة بالكسب والعمل
-
المساكين
والمساكين هم أسوأ حالا من الفقراء من حيث القدرة المالية، ويعطي الفقراء
والمساكين من الزكاة بقدر حاجتهم، وحسب ظروف مجتمعهم. وليس المقصود بالفقير
والمسكين هو اليتيم والأرملة والعاجزين عن العمل فحسب، بل ويشمل كل مسلم في
المجتمع لايستطيع سد حاجته المعاشية، وإن كان يمارس العمل، وله مورد مالي يدر عليه
ربحا، فهو يستحق الزكاة مازال مورده المالي لايسد حاجته، إذ يعطي في هذه الحالة
لسد العوز الحاصل في وارده السنوي.
والخلاصة أن القادر علي الكسب الذي يحرم عليه الزكاة هو الذي تتوافر فيه
الشروط الآتية :
-
أن يجد العمل الذي يكتسب منه
-
أن يكون هذا العمل حلالا شرعا، فإن العمل
المحظور في الشرع بمنزلة المعدوم
-
أن يقدر عليه من غير مشقة شديدة فوق المحتمل
عادة
-
أن يكون ملائما لمثله، ولائقا بحاله ومركزه
ومروءته ومنزلته الاجتماعية.
-
أن يكتسب منه قدر ما تتم به كفايته وكفاية من
يعولهم.
ومعني هذا : أن كل قادر علي الكسب مطلوب منه شرعا أن يكفي نفسه بنفسه. وأن
المجتمع بعامة، وولي الأمر بخاصة مطلوب منه أن يعينه علي هذا الأمر هو حق له وواجب
عليه.
هذه هي تعليمات الإسلام الناصعة التي جمعت بين العدل والإحسان أو العدل
والرحمة. أما مبدأ الماديين القائلين ( من لايعمل لا يأكل) فهو مبدأغير طبيعي،
وغير أخلاقي، وغير إنساني. بل إن في الطيور والحيوانات أنواعا يحمل قويها ضعيفها،
ويقوم قادرها بعاجزها. أفلا يبلغ الإنسان مرتبة هذه العجماوات؟!
كم يعطي الفقير والمسكين من الزكاة؟
اختلفت المذاهب الفقهية في مقدار ما يعطي الفقير والمسكين من الزكاة. ونستطع
أن نحصر هذا الخلاف في اتجاهين رئيسيين :
الاتجاه الأول : يقول بإعطائهما ما يكفيهما تمام الكفالة بالمعروف، دون تحديد
بمقدار من المال.
الاتجاه الثاني : يقول بإعطائهما مقدارا محددا من المال يقل عند بعضهم ويكثر
عند آخرين.
ونبدأ بالاتجاه الأول، لأنه أقرب إلي منطق الإسلام ونصوصه وأهدافه في باب
الزكاة. وقد انقسم هذا الاتجاه إلي مذهبين
-
مذهب يقول بإعطاء كفاية العمر
-
ومذهب يقتصر علي إعطاء كفاية سنة.
المذهب الأول : إعطاء الفقير كفاية العمر
يتجه هذا المذهب إلي : أن يعطي الفقير ما يستأصل شأفة فقره، ويقضي علي أسباب
عوزه ووفاته، ويكفيه بصفة دائمة ولايحوجه إلي الزكاة مرة أخري.
قال الإمام النووي في (المجموع) : (المسألة الثانية) في قدر المصروف إلي
الفقير والمسكين. قال أصحابنا العراقيون وكثير من الخراسانيين : يعطيان ما يخرجهما
من الحاجة إلي الغني، وهو ما تحصل به الكفاية علي الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه
الله. واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الهلالي رضي الله عنه أن رسول
الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لاتحل المسألة إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة
فحملت له المسألة حتي يصيبها ثم ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة، اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيبها ثم
يتمسك، ورجل أصابته جائحة، اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيب قواما من عيش –
أو قال سدادا من عيش – ورجل أصابته فاقة حتي يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : قد
أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قواما من عيش، أو قال سدادا من عيش فما
سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا ) رواه مسلم في صحيحه.
قالوا : فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته، أو آلات حرفته، قلت
قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحهما يفي بكفايته غالبا تقريبا. ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان
والأشخاص..
فإن لم يكن محترفا، ولا يحسن صنعة أصلا، ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب
أعطي كفاية العمر الغالب لأمثالهفي بلاده، ولا يتقدر بكفالة سنة[109].
ووضح ذلك شمس الدين الرملي في شرح المنهاج
للنووي. فذكر أن الفقير
والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة، يعطي كفاية ما بقي من العمر
الغالب لأمثاله في بلده، لأن القصد إغناءه، ولا يحصل إلا بذلك. فإن زاد عمره عليه
أعطي سنة بسنة.
المذهب الثاني : يعطي كفاية سنة
وهناك مذهب ثان قال به المالكية وجمهور الحنابلة وآخرون من الفقهاء :
أن يعطي الفقير والمسكين من الزكاة ما تتم به كفايته وكفاية من يعوله سنة كاملة.
ولم ير أصحاب هذا الرأي ضرورة لإعطاءه كفاية العمر، كما لم يروا أن يعطي أقل من
كفاية السنة.
وإنما حددت الكفاية بسنة لأنها في العادة أوسط ما يطلبه الفرد من
ضمان العيش له ولأهله.وفي هدي الرسول صلي الله عليه وسلمفي ذلك أسوة حسنة، فقد صح
أنه ادخر لأهله قوت سنة[110].
ولأن أموال الزكاة في غالبها حولية، فلا داعي لإعطاء كفاية العمر،
وفي كل عام تأتي حصيلة جديدة من موارد الزكاة، ينفق منها علي المستحقين[111].
ويري القائلون بهذا المذهب أن كفاية سنة ليس لها حد معلوم لا تتعداه
من الدراهم أو الدنانير بل يصرف للمستحق كفاية سنته بالغة ما بلغت.
فإذا كانت كفاية السنة لا تتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب
من نقد، أو حرش أو ماشية أعطي من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيا، لأنه حين
الدفع إليه كان فقيرا مستحقا.
مستوي لائق للمعيشة
ومن هنا يتبين لنا أن الهدف من الزكاة ليس إعطاء الفقير درهما أو
درهمين وإنما الهدف تحقيق مستوي لائق للمعيشة، لائق به بوصفه مسلما ينتسب إلي دين
العدل والاحسان، وينتمي إلي خير أمة أخرجت للناس.
وأدني ما يتحقق به هذا المستوي أن يتهيأ له ولعائلته طعام وشراب
ملائم، وكسوة للشتاء وللصيف، ومسكن يليق بحاله. وهذا ما ذكره ابن حزم في (المحلي)
وذكره النووي في (الروضة) وذكره كثير من العلماء.
-
العاملون عليها
وهو الأشخاص الذين يعملون علي جمع وتوزيع الزكاة، فهؤلاء الموظفون الذين
يعملون في إدارة الجهاز الوظيفي الذي يقوم بجمع وحفظ وتوزيع وصرف الزكاة، يتقاضون
مرتباتهم المعاشية من واردات الزكاة، باعتبارهم موظفين عاملين لا باعتبارهم فقراء مستحقين.
ويمكن تقسيم هذا الجهاز في عصرنا الحاضر إلي إدارتين رئيسيتين، تتبع كل إدارة
منهما فروع وأقسام :
الأولي : إدارة تحصيل الزكاة
الثانية : إدارة توزيع الزكاة
-
إدارة تحصيل الزكاة و اختصاصاتها :
أما عمل القائمين علي التحصيل فهو عمل (ضرائبي) ومهمتهم تشبه ما يسمي عندنا
(مأموري الضرائب). فمن وظيفتهم إحصاء الممولين (من تجب عليهم الزكاة)، وأنواع
أموالهم، ومقادير ما يجب عليهم فيها، ورصد ذلك، وجمعه من أهله، والقيام علي حفظه
بعد جمعه، حتي تتسلمه إدارة صرف الزكاة وتوزيعها. والمفروض أن يكون لها فروع في
مختلف المراكز والمناطق.
بيد أن اختصاص هذه الإدارة أوسع مجالا من إدارات الضرائب الحديثية فيما أعلم.
فإداراة الضرائب تعمل في مجال النقود وحدها من ذهب وفضة. أما إدارة جمع الزكاة
فتشمل أنواعا أخري من الأموال مثل: الحبوب والثمار والماشية والمعدن. (ويمكن أخذ
القيمة في هذا كله، كما هو مذهب أبي حنيفة ومن وافقهم.
-
إدارة توزيع الزكاة واختصاصاتها
وعمل هذه الإدارة أقرب ما يكون إلي هيئات (الضمان الاجتماعي) في عصرنا. وعليها
اختيار أفضل الطرق لمعرفة المستحقين للزكاة، وحصرهم والتأكد من استحقاقهم، ومقدار
حاجتهم، ومبلغ ما يكفيهم، ووضع الأسس السليمة لذلك، وفقا للعدد والظروف
الاجتماعية.
قال الامام النووي : ينبغي للإمام والساعي وكل من يفوض إليه أمر تفريق
الصدقات، أن يعتني بضبط المستحقين، ومعرفة أعدادهم، وأقدار حاجاتهم بحيث يقع الفراغ
من جميع الصدقات بعد معرفتهم أومعها ليتعجل حقوقهم وليأمن هلاك المال عنده[112].
وهذا دليل علي اهتمام علماءنا رحمهم الله بتنظيم صرف الزكاة، والعنايةالقصوي
بمستحقيها حتي يصل إليهم حقهم في أقرب وق، بدون أن يطالبوا هم به.
كم يعطى العامل ؟
العامل موظف، فالواجب أن يعطى ما يكافئ وظيفته من أجر دون وكس ولا شطط. وقد
روي عن الشافعي : أن العاملين عليها يعطون من الزكاة في حدود الثمن،وهو مبني علي
رأيه في التسوية بين الأصناف الثمانية، فإن كان أجرهم أكثر من الثمن أعطوا من غير
الزكاة.
ويرى الجمهور أنهم يعطون من الزكاة –كما نص القرآن- كل ما يستحقونه، وإن كان أكثر من الثمن، وهو
رواية عن الشافعي، علي أن رأي الشافعي رأي وجيه. لما فيه من رعاية مصلحة الفقراء
والمستحقين، وهو ينفق مع الاتجاه الحديث في الضرائب الذي ينادي بوجوب الاقتصاد في
نفقات الجباية.
ويعطى العامل ولو كان غنيا لأنه إنما يأخذ أجرا عن عمل أداه، لا معونة لحاجة
أصابته. وقد روى أبو داود عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : ((لا تحل الصدقة
لغني، إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها
بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق علي المسكين، فأهداها المسكين للغني[113])).
-
المؤلفة قلوبهم
وهم ضعاف الإيمان من المسلمين الذين يخشي عليهم أن يغيروا دينهم، فمثل هؤلاء
يعطون من الزكاة لتثبيتهم علي دينهم وتقوية موقفهم إلي جانب الإسلام.
إذ قد يستغل خصوم الإسلام حاجتهم وفقرهم ويعملون علي استهوائهم وحرف اعتقادهم،
كما يفعل كثير من دعاة المسيحية والمبادئ المعادية للإسلام الآن في المناطق
الفقيرة من بلاد المسلمين.
وبذا يشكل هذا التشريع ضمانة وقائعية في حياة المسلم الاقتصادية، يسد الثغرة
المعاشية التي قد ينفذ منها خصوم الإسلام ويتخذونها وسيلة للتضليل والتأثير علي
ضعاف الإيمان من الفقراء، إضافة إلي أن هناك
كثيرا من أعداء الإسلام وخصومه من هذه الفئة من (المؤلفة قلوبهم) قد يدفعهم
ضعف الإيمان إلي محاربة الإسلام والتعاون مع الكفار، لا لفقرهم وحاجتهم إلي المال
ولكن بسبب تحاملهم علي الإسلام وقيادته، لذلك فإن صرف حصة من مال الزكاة إلي هذه
الفئة ومرها بالفضل والعطاء والرخاء، يجعلها تخلد إلي العيش في ضلال هذه النعمة،
وتخشي فقدها، إذا ما هي قاومت الرسالة والدولة الإسلامية.
أين يصرف سهم المؤلفة قلوبهم في عصرنا ؟
وإذا كان حكم المؤلفة قلوبهم وإعطاءهم من الزكاة باقيا محكما لم يلحقه نسخ ولا
إلغاء، فكيف نصرف هذا السهم المخصص لهم في عصرنا ؟ وأين نصرفه ؟
إن الجواب عن هذا واضح مما ذكرناه من بيان الهدف الذي قصده الشارع من وراء هذا
السهم. وهو استعمالة القلوب إلي الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه،
أو كسب أنصار له.أو كف شر عن دعوته ودولته. وقد يكون ذلك بإعطاء المساعدات لبعض
الحكومات غير المسلمة لتقف في صف المسلمين، أو معونة بعض الهيئات والجمعات والقبائل ترغيبا لها في الإسلام أو مساندة
أهله، أو شراء بعض الأقلام والألسنة للدفاع عن الإسلام وقضايا أمته ضد المفترين
عليه.
والإسلام لا يجوز أن يقف مكتوف اليدين إزاء هذا التدخل أو التسلل أو التغلغل،
لو كانت له دولة تتبني رسالته، وتنشر دعوته،وتقيم شريعته في الأرض.
لقد كان الإسلام في موقف الهجوم فأصبح اليوم في موقف الدفاع، فهو ينتقص من
أطرافه ويغزي في عقر داره.
لهذا كان من أولي الناس بالتأليف في زماننا –كما نبه السيد رشيد رضا رحمه
الله- قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم، فإننا
نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين، وفي ردهم عن ديهم، يخصصون من
أموال دولهم سهما للمؤلفة قلوبهم من المسلمين. فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره
وإخراجه من حظيرة الإسلام. ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشقة الدول
الإسلامية أو الوحدة الإسلامية ... أفليس المسلمون أولي بهذا منهم ؟![114].
-
في الرقاب
الرقاب جمع رقبة، والمراد بها في القرآن :العبد أو الأمة وهي تذكر في معرض
التحرير أو الفك. كأن القرآن الكريم يشير بهذه العبارة المجازية إلي أن الرق
للإنسان كالغلل في العتق، والنير في الرقبة، وتحرير العبد من الرق هو فك لرقبته من
غلها، وتخليص لها من النير الذي ترزح تحته، وفي آية المصارف قال تعالى : ( وفي
الرقاب) ومعناها وتصرف الصدقات في فك الرقاب، وهو كفاية عن تحرير العبيد والاماء
من نير الرق والعبودية.
تحرير العبيد المكاتبون: وهم العبيد الذين اتفقوا مع أسيادهم علي التحرير لقاء
المبلغ المعين، فإنهم يعطون من الزكاة ما يكفيهم لتحرير أنفسهم وفك رقابهم، تنفيذا
لمنهج الإسلام الذي استهدف تحرير الإنسان، وإنقاذه من الرق والعبودية.
-
الغارمين
والغارم هو المدين الذي تراكمت عليه
الديون، ولا يستطيع الوفاء بها. فيعطي من هذه الزكاة لفك دينه، ولايخفي ما لهذا
التشريع من أثر نفسي وأخلاقي إضافة إلي أثره الاقتصادي في حياة الفرد والجماعة.
ففي هذا التشريع ضمان لحق الدائن، وعون وطمأنينة للمدين، فالشخص الذي يتعرض للازمات المالية، أو للطوارئ التي تحل به، لايصبح عرضة للعقاب والسجون والإرهاق المالي كما هي حال الإنسان في ظل القوانين الوضعية بل تتحمل خزينة الدولة دفع هذه الديون الذي عجز المدين عن أداءها من حصة الزكاة بشرط أن لايكون قد صرف هذه الأموال في المعصية.
ففي هذا التشريع ضمان لحق الدائن، وعون وطمأنينة للمدين، فالشخص الذي يتعرض للازمات المالية، أو للطوارئ التي تحل به، لايصبح عرضة للعقاب والسجون والإرهاق المالي كما هي حال الإنسان في ظل القوانين الوضعية بل تتحمل خزينة الدولة دفع هذه الديون الذي عجز المدين عن أداءها من حصة الزكاة بشرط أن لايكون قد صرف هذه الأموال في المعصية.
كم يعطى الغارم ؟
يعطى الغارم قدر حاجته. وحاجته هنا : هي قضاء دينه، فإن أعطى شيئا فلم يقض
الدين منه، بل أبرأه منه الدائن، أو قضاه عنه غيره، أو قضاه هو من غير مال الزكاة.
فالصحيح أنه يسترجع منه، لاستغنائه عنه[115].
وسواء كان الدين قليلا أم كثيرا، فإن المطلوب سداده عنه، وتفريغ ذمته منه.
-
في سبيل الله
ويحتل هذا السهم أوسع أبواب الصرف في فريضة الزكاة، فهو يشمل كل أعمال البر
والإصلاح ومجلات الخدمة، والمصلحة الاجتماعية والعقيدة كبناء المساجد والمدارس
والمستشفيات والملاجئ، وتسليح الجيش والدعوة إلي الإسلام والأمر بالمعروف .. الخ.
وينتفع من هذا المجال كل مواطنين في ظل الدولة الإسلامية، سواء المسلمون منهم،
وغير المسلمين إذ يتوقف الانتفاع بالمؤسسات والخدمات العامة التي تنشأها الدولة من
أموال الزكاة علي المسلمين وحدهم.
ما اتفق عليه المذاهب الأربعة في هذا المصرف :
يلاحظ عن المذاهب الأربعة أنها اتفقت في هذا المصرف علي أمور ثلاثة :
-
أن الجهاد داخل في سبيل الله قطعا
-
مشروعية الصرف من الزكاة لأشخاص المجاهدين،
بخلاف الصرف لمصالح الجهاد ومعداته، فقد اختلفوا فيه.
-
عدم جواز صرف الزكاة في جهات الخير والاصلاح
العامة من بناء السدود والقناطر. وإنشاء
المساجد والمدارس. وإصلاح الطرق وتكفين الموتى ونحو ذلك. وإنما عبء هذه الأمور علي
موارد بيت المال الأخري من الفيء والخراج وغيرها.
وإنما لم يجز الصرف في هذه الأمور لعدم التمليك فيها. كما يقول الحنفية، أو
لخروجها عن المصارف الثمانية كما يقول غيرهم.
أما ما نقل عن ((البدائع)) من تفسيره بجميع القرب والطاعات، فقد اشترط فيه
تمليك الزكاة لشخص، فلا يعطى لجهة عامة، كما يشترط أن يكون الشخص فقيرا. لهذا لا
يخرج هذا الرأي عن دائرة المضيقين في مدلول (سبيل الله).
وانفرد أبو حنيفة باشتراط الفقر في المجاهد. كما انفرد أحمد بجواز الصرف
للحجاج والعمار.
واتفق الشافعية والحنابلة علي اشتراط أن يكون المجاهدون الذين يأخذون الزكاة
من المتطوعين غير المرتبين في الديوان.
واتفق ما عدا الحنفية علي مشروعية الصرف علي مصالح الجهاد في الجملة.
-
ابن السبيل
وهو المسافر الذي نفد ما لديه من مال في سفره، فإنه يعطي من الزكاة ما يكفيه
لإعادته إلي وطنه.
ويساهم هذا التشريع بسد باب التشرد والتسول والسرقة والسقوط الأخلاقي الذي قد
يضطر الغرباء الذين انقطع بهم السبيل إلي ولوجه، واللجوء إليه.
كم يعطى ابن السبيل ؟
-
يعطي ابن السبيل من النفقة والكسوة ما يكفيه
إلي مقصده، أو موضع ماله، إن كان له مال في طريقه. هذا إن لم يكن معه مال أصلا.
وإن كان معه مال لا يكفيه أعطي ما يتم به كفايته.
-
ويهيأ له ما يركبه إن كان سفره طويلا. وقدروا
السفر الطويل بما تقصر فيه الصلاة، وهو نحو 80 ك م، أو كان ضعيفا لايقدر علي المشي. وإن كان
قويا وسفره دون مسافة القصر، لم يعط المركوب، ويعطى ما ينقل عليه زاده إلا أن يكون قدرا يعتاد مثله أن يحمله
بنفسه.
قالوا : وصفة تهيئة المركوب : أنه إن اتسع المال اشتري له مركوب. وإن ضاق
اكتري له. وإنما قالوا ذلك، لأن وسائل الركوب والنقل كانت هي الدواب. فلهذا قالوا
: تشتري أو تكتري. أما الآن فقد تطورت وسائل النقل إلي السيارات والقطارات،
والبواخر والطائرات، فلا سبيل إلي اشترائها بل يكتري له ما يلائم حاله منها. فمن
كان يلائمه ركوب القطار أو الباخرة لا يتجشم نقله بالطائرة حتي لا يرهق مال الزكاة
بما يمكن الاستغناء عنه.
-
ويعطى جميع مؤن سفره، لا ما زاد بسبب السفر
فقط. وهذا هو الصحيح.
-
ويعطى سواء كان قادرا علي الكسب أم لا.
-
ويعطى ما يكفيه في ذهابه ورجوعه إن كان يريد
الرجوع، وليس له في مقصده مال.
وقال بعض العلماء : لا يعطى للرجوع أثناء سفره وإنما يعطى عند رجوعه. وبعضهم
قال : إن كان عزمه أن يصل الرجوع بالذهاب أعطي الرجوع، وإن كان عزمه اقامة مدة لم
يعط للرجوع. والصحيح الأول.
-
وأما نفقة الاقامة بالمقصد فقد فصل في ذلك
الشافعية. فقالوا : إن كامت اقامته دون أربعة أيام –غير يومي الدخول والخروج- أعطي
لها، لأنه في حكم السفر، وله الفطر والقصر وسائر رخص السفر. وإن كانت أربعة أيام
فأكثر –غير يومي الدخول والخروج- لم يعط لها، لأنه خرج عن كونه مسافرا ابن السبيل،
وانقطعت رخص السفر، بخلاف الغازي، فإنه يعطى مدة الاقامة في الثغر وإن طالت.
والفرق أن الغازي يحتاج إليه لتوقع الفتح، ولأنه لا يزول بالاقامة اسم (الغازي) بل
يتأكد بخلاف المسافر.
وقال بعضهم : يعطى ابن السبيل وإن طال مقامه إذا كان مقيما لحاجة يتوقع تنجزها[116].
-
وإذا رجع ابن السبيل وقد فضل معه شيء هل يسترجع
منه أم لا؟
قال الشافعية : نعم، سواء قتر علي نفسه أم لا، وقيل : ان قتر علي نفسه، بحيث
بقي معه هذا الفضل من تقتيره لم يرجع بما فضل. وهذا بخلاف الغازي، حيث لا يسترجع
منه إذا قتر علي نفسه، لأن ما يأخذه الغازي يأخذه عوضا، لحاجتنا إليه وقيامه
بالغزو وقد فعل، وابن السبيل يأخذ لحاجتهإلينا وقد زالت[117].
وقال الحنفية : لايلزم ابن السبيل التصدق بما فضل في يده عند قدرته علي ماله،
كالفقير إذا استغني وعنده شيء من مال الزكاة فلا يلزمه التصدق.
هل يوجد ابن السبيل في عصرنا ؟
ذهب بعض العلماء المعاصرين إلي أن صنف ( ابن السبيل) لم يعد له وجود في عصرنا،
نظرا لسهولة المواصلات وسرعتها وتنوعها، حتي أصبح العالم كله كبلد واحد، ونظرا
لوجود الوسائل الكثيرة الميسرة لحصول الإنسان علي ماله بالقدر الذي يريد من أي
مكان في الدنيا عن طريق الحوالة علي البنوك ونحوها[118].
هذا ما ذكره المرحوم الشيخ أحمد مصطفي المراغي في تفسيره.ولكننا نخالفه ونرى
أن ابن السبيل يوجد رغم ما ذكره من سهولة الحصول علي المال من أي بلد في صورة شتي.
[1]
يراد بالمقاصد
الشرعية : المعاني والحكم والأسرار الملحوظة للشارع فيما يشرع. انظر مقاصد الشريعة
الإسلامية للطاهر بن عاشور. وقواعد الوسائل لمصطفي كرامة اللهمخدوم (34).
[15]
رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه،
في كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو في
سبيل الله رقم : 2886.
[28]
متفق عليه، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه في كتاب الزكاة باب قول الله تعالي : (( فأما من أعطي واتقي)) ] الليل 5:10[.
اللهم أعط منفق مال خلفا. برقم (1442).
ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب في المنفق والممسك برقم (1010)، كلاهما بلفظ: ما من
يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان.
[29]
رواه مسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه،
كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، برقم : (2588).
[30]
رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله
عنهما، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم (2586).
[46][46]
إشارة إلي حديث أبي سعيد الخذري : أن رسول
الله صلي الله عليه وسلم قال : ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع،
حتي لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))، جحر الضب علي ما فيه من الضيق والقذارة والنتانة
وسوء الرائحة، لو دخلوا مثل هذا الجحر، لدخلتموه، قالوا : يارسول الله ، آليهود
والنصاري؟! قال : فمن ؟!. متفق عليه. رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3456)
ومسلم في العلم (2669)، وأحمد في المسند (11897).
[55]
نيل الأوطار (4/ 167)،
وضعفه السيوطي في الجامع الصغير، وقال البيهقي : تفرد به محمد. قال الذهبي في
المهذب ضعيف.
[87]
بحث توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع
بلا تمليك فردي للمستحق للخياط. منشور في
مجلة مجمع الفقه الإٍسلامي العدد 3 (1/371).
[90]
بحث : توظيف أموال الزكاة للشيخ آدم شيخ عبد الله، منشور في مجلة
مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 (1/ 354).
[94]
اجتووا المدينة : أي أصابهم الجوي. وهو
مرض وداء الجوف إذا تطاول إذا لمم يوافقهم هواؤها (النهاية لابن الأثير : 1/381).
[99]
الحلس : كساء يجعل علي ظهر البعير تحت رحله، وهو بساط يبسط في البيت. والجمع أحلاس (المصباح المنير)
الحلس : كساء يجعل علي ظهر البعير تحت رحله، وهو بساط يبسط في البيت. والجمع أحلاس (المصباح المنير)
[103]
دم موجع : هو أن يتحما دية، فيسعي فيها
حتي يؤديها إلي أولياء المقتول، فإن لم يؤدها قتل المحتمل عنه فيوجعه (النهاية:5/157)
[113]
قال النووي في المجموع. هذا الحديث حسن أو
صحيح رواه أبو داود من طريقين أحدهما عن عطاء بن يسارعن أبي سعيد الخدريعن النبي.
والثاني عن عطاء عن النبي صلي الله عليه وسلم مرسلا وإسناده جيد في الطريقين.
اضف تعليقاً عبر: